دور الأمم المتحدة في ليبيا.. تداخل السياسة والقانون والإرهاب

منذ اندلاع ثورة 17 فبراير 2011م تبنت الأمم المتحدة مساراً لبناء الدولة في ليبيا عبر دعم العملية السياسية، وشكل توفير الحماية للثورة والنظام الجديد محور اهتمام المنظمة الدولية

منذ اندلاع ثورة 17 فبراير 2011م تبنت الأمم المتحدة مساراً لبناء الدولة في ليبيا عبر دعم العملية السياسية، وشكل توفير الحماية للثورة والنظام الجديد محور اهتمام المنظمة الدولية بجانب رفضها المستمر لفكرة التدخل العسكري، وكان من المفترض خفض دور “بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا”، لكنه مع الأزمة الحالية زاد دورها بشكل واضح، وهو ما يثير الجدل حول اتساق السياسات الدولية مع تطلعات الثورة الليبية وقدرتها على حل الصراعات.

وفي الفترة الأخيرة، قام الأمين العام للأمم المتحدة بزيارة لليبيا عبر طرابلس؛ لأجل دعم الحوار الوطني في “غدامس”، ورغم وقوعها تحت سيطرة حكومة المؤتمر الوطني العام لم يلتقِ مع  “نوري أبو سهمين” (رئيس المؤتمر)، وبغض النظر عن الموقف القانوني للأمم المتحدة، لا تشكل هذه المواقف دعماً للحوار السياسي بقدر ما تثير الإشكالات حول دور المنظمة الدولية تجاه الأزمة السياسية في ليبيا.

أولاً: أداء بعثة الدعم:

في سبتمبر 2013م صدر تقرير الأمين العام حول رصد بعثة الأمم المتحدة حول الأوضاع السياسية، ليغطي القرير نشاط بعثة الأمم المتحدة بشكل تراكمي للفترة (فبراير –  أغسطس)، وذلك في مجالات الشؤون السياسية والأمنية وحقوق الإنسان، ويشير التقرير إلى أن تزايد حدة الاستقطاب السياسي، أدى لخفض فاعلية المؤسسات وتباعد المواقف السياسية بشأن مستقبل البلاد وسياسة معالجة الملفات الانتقالية كمستقبل كتائب الثوار ودور الأحزاب السياسية، وخلص إلى أن تضارب مصالح القوى السياسية والإقليمية  شكَّل عقبة أمام نضج المؤسسات الانتقالية، وإذا ما كان تناقض المصالح بين الأطراف الداخلية واضحاً، فإن التقرير لم يشر للعوامل الإقليمية التي تؤثر في الشؤون الليبية، فوجود فواعل خارجية يوجب على الأمم المتحدة الكشف عنها أو التصدي لها وفق اختصاصات القرار (2095).

وبعد إنجاز انتخابات المؤتمر الوطني وتشكيل الحكومة، أشارت تقارير المبعوث الخاص للأمم المتحدة (طارق متري) لحدوث تقدم في انتخابات الهيئة التأسيسية والمفوضية العليا للانتخابات، وتعديلات قانون (59/ 2012م) بشأن القواعد المتعلقة بانتخابات المجالس البلدية، واعتبر أنها تقود الدولة للانتهاء من الفترة الانتقالية، حيث اعتبر أن البدء في انتخابات الهيئة التأسيسية سوف يؤدي لتكوين ديناميات جديدة في الدولة، تساعد في خفض الاحتقان السياسي عبر توسيع المشاركة في صياغة الدستور، ففي 16 سبتمبر 2013م رأى  رئيس البعثة أن إقرار المؤتمر الوطني لقانون انتخاب الهيئة التأسيسية يعزز فرص التقدم في عملية صياغة الدستور.

كما تناولت تقارير الأمم المتحدة سياسات الأمن والمشردين وتعاملت مع حالة “تاورغاء” (شرق مصراتة) كمسألة مشردين تستعصي على الحل؛ بسبب تعقيدات نشأت مع الثورة الليبية، تمثلت في اتساع نطاق الصراع الاجتماعي، ويشير التقرير إلى أن محاولات عودة سكان تاورغاء ظلت محفوفة بلأخطار خلال العامين الماضيين، ولكنه رغم إدراك بعثة الأمم المتحدة لأهمية هذه المسألة، فإنها لم تقترح تصورات لحلها، وترك تسوية مشكلات النازحين للحوار السياسي والاجتماعي ما بين الأطراف الليبية الذي شهد تقدماً مع بدء عملية “فجر ليبيا”؛ حيث ظهرت مبادرات اجتماعية تطرح تسوية لعودة النازحين أو المشردين.

وفيما يتعلق بالمسائل الأمنية، رصدت البعثة (وفق تقرير الأمين العام في سبتمبر 2013م) الأحداث التي اندلعت في بعض مناطق ليبيا والسياسة الأمنية التي اتبعتها الدولة، فقد تناولت بشكل تفصيلي الأحداث والسياسة الأمنية في كل من طرابلس وشرق وجنوب ليبيا، وركزت على ملاحظتين أساسيتين؛ تتمثل الملاحظة الأولى في أن الحوادث التي اندلعت في هذه الأماكن كان يغلب عليها الصراع فيما بين القوى الثورية على الولوج لسلطة الدولة والاستحواذ عليها، وينطبق ذلك لحد كبير على منطقة طرابلس والمنطقة الشرقية، فيما يرجع العنف والصراع في الجنوب لأسباب تتعلق بضعف الحكومة وانفلات الجماعات المسلحة.

أما الملاحظة الثانية، فتشير إلى أن السياسات التي اتبعتها الحكومة والمؤتمر الوطني حققت إنجازات محدودة في كل المناطق وخاصة في منطقي الجنوب والشرق، فيما حققت تقدماً نسبياً في المنطقة الغربية، وقد أرجع التقرير ضعف أداء السياسة الأمنية لعدم وضوح سياسة بناء الأجهزة الأمنية، أو سياسة دمج كتائب الثوار في أجهزة الدولة، وقد انعكست هذه المشكلات في ضعف النظام الأمني والقضائي، وتباطؤ عملية بناء الجيش والنظام الدفاعي للدولة، واعتبرها مسؤولية مشتركة لكل من الحكومة والمؤتمر.

ولعل التوصيات التي تبنتها تقارير الأمين العام لجانبين مهمين؛ احترام المؤسسات المنتخبة، ومراعاة حقوق الإنسان في تناول المسائل السياسية وتطبيق القوانين، والتأكيد على حوار وطني يساهم في تحديد الأولويات الوطنية يشارك فيه جميع الأطراف، وقد تم تطبيق هذه الرؤية في مفاوضات “أوسلو ديسمبر 2013م”، وفي مبادرة المبعوث الخاص في يونيو 2014م، حيث وجهت الدعوة لكل الفاعلين السياسيين بغض النظر عن تقييم البعثة لموقفهم السياسي أو دورهم داخل مؤسسات الدولة.

غير أن القيام بهذا الدور واستكمال بناء الدولة يواجه تحديات، ليس فقط بسبب ضعف مؤسسات الدولة، ولكن بسبب تنامي دور العوامل الخارجية، وخاصة ما يتعلق بشرعية التدخل الدولي، وهنا تشير تصريحات طارق متري (8 أكتوبر 2013م) إلى أن اختطاف “الرفيعي” كمواطن ليبي يمنح ليبيا الحق في الدفاع عن سيادتها، ومن هذه الوجهة، لا تتصمن هذه الرؤية انتقادات للحكومة الليبية بقدر ما تدفع عن حقها في ممارسة السيادة على أراضي الدولة.

وتعبر مبادرة “متري” في 13 يونيو 2014م فلسفة أداء بعثة الدعم منذ تشكيلها، حيث كان خطابها السياسي موجهاً للمجتمع الليبي وقواه الحية، ولم يقتصر فقط على المؤسسات الرسمية، كما وضعت مبادئ لإدارة الأزمة السياسية تقوم على أن العمل السياسي لا يستقيم مع العنف، وأن المنافسة الديمقراطية تتنافى مع الإقصاء، وأن قوة الحجة هي البديل الأسلم لحجة القوة في إطار الالتزام بالحوار من أجل ضمان التعايش السلمي، وتشكل هذه المبادئ جوهر حل الإشكالية المتعلقة بأولوية بناء الديمقراطية أو تحقيق الأمن وبناء الجيش، لترسيخ التعايش السلمي كمدخل لتحقيق الديمقراطية وبناء المؤسسات.

ومن ثم، طرحت مبادرة البعثة الدولية منظوراً لمعالجة الأزمة الليبية يختلف عن المقترحات التي قدمها مؤتمر روما حول ليبيا والمنعقد في مارس 2014م، حيث ركز (مؤتمر روما) على السياسات الأمنية ومكافحة الإرهاب في ظل بناء الديمقراطية، وهذا المنظور تبناه “تحالف القوى الوطنية” وذوو التوجهات الليبرالية، حيث إنه في وقت أزمة تمديد المؤتمر الوطني كان منظورهم للأولويات السياسية يقوم على بناء الجيش والأجهزة الأمنية كخطوة لدعم الديمقراطية، ولكنه مع تشكيل مجلس النواب في “طبرق”، اعتبر بيان تحالف القوى الوطنية في 27 أغسطس أن مجلس النواب هو الجهة الشرعية الوحيدة في الدولة، وأن قراراته ملزمة لكل الليبيين، وأشار بشكل خاص لقرار حل التشكيلات المسلحة، وتفعيل الجيش والشرطة فقط، وهذا ما يفسر خلفية رفضهم لمبادرة بعثة الدعم في ليبيا.

وحتى نهاية أغسطس 2014م، اتسمت تقارير بعثة الدعم بتغليب فكرة توسيع مشاركة كل الأطراف في العملية السياسية ووضع أولوية الحل السلمي في خفض وتسوية الصراعات، فقد التزم تقرير مبعوث الأمين العام بالحياد تجاه الوضع العسكري والسياسي في ليبيا، حيث لم يسبغ الشرعية على عملية “الكرامة”، وكانت توجهات البعثة نحو دعم العملية السياسية وتوفير أجواء المصالحة واستكمال المؤسسات، وهذا ما يضفي على سياسات البعثة نوعاً من التنوع والشمول يقربها من القبول على المستوى الوطني، فحديث التقرير (سبتمبر 2013م) عن المؤسسات غير المكتملة لا يعني التركيز على العيوب التي تعاني منها، بقدر ما يعزز البحث عن سبل استكمال تكوين وبناء هذه المؤسسات.

ثانياً: طور جديد لدور الأمم المتحدة في ليبيا:

مع صدور قرار مجلس الأمن (2174) حدثت تغيرات جوهرية في دور الأمم المتحدة في ليبيا، ويتمثل ذلك في تعديل اختصاصات بعثة الدعم وتوسيع نطاق الرقابة الدولية على الكيانات والأفراد الليبيين، وهو ما صار يعطي إطاراً واسعاً للتدخل في الشؤون الداخلية.

أ- من القرار (1970) إلى (2174):

يأتي قرار مجلس الأمن رقم (2174) ضمن سلسلة قرارات بدأت في عام 2011م، بدأت بالقرار (1970) لغرض الإشراف على الأوضاع الأمنية والسياسية في البلاد، والقرار الأخير انعقد بناء على طلب بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، واكتسب القرار أهميته في أنه يأتي في مرحلة نزاع حول دستورية سلطات الدولة؛ السلطة التشريعية والتنفيذية، ولمعالجة الأزمة في ليبيا وضع مجلس الأمن 11 بنداً تضمنت الأشكال المختلفة لضبط العنف ومنع وصول السلاح للأراضي الليبية، تأمين الأسلحة والذخائر وعدم وصولها للجماعات “الإرهابية”، وإدراج المتورطين في الجرائم، وأنه وفق القرار (1970) أحال الوضع في ليبيا للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.

ويكتسب القرار الأخير أهميته في أنه يأتي في مرحلة نزاع حول دستورية سلطات الدولة؛ السلطة التشريعية والتنفيذية، واندلاع صراع مسلح في طرابلس وبنغازي يتطلب وضع حلول للأزمة السياسية المعقدة.

ب- قيود الأمم المتحدة:

وتعكس فلسفة القرارات حول ليبيا وجود اتجاه لفرض مزيد من القيود على تحركات الأفراد، حيث تضمن القرار (2174/ 4) إدراج الأفراد والكيانات التي  تخترق  القانون الدولي الإنساني وتهدد السلم والاستقرار أو تقويض التحول السياسي أو تقديم دعم لها، ووضع أربعة مستويات للاتهام بارتكاب انتهاكات، وهي: التخطيط أو شن هجمات ضد مرافق الدولة، أو تقديم الدعم للجماعات المسلحة والشبكات الإجرامية، أو العمل لصالح المدرجين في القائمة الجنائية الدولية، وهذه التصنيفات تفتح آفاق اتهام وتوقيف الليبيين من قبل أي دولة دون توجيه اتهام محدد، وخصوصاً في ظل منح صلاحيات واسعة لأي دولة عضو (2174/ 11) في الأمم المتحدة في إجراء تفتيش لكل من يشمله القرار، سواء الأفراد أو الكيانات.

وبعد صدور القرار (2174) صارت البعثة الدولية تتمتع بصلاحيات تنفيذية واسعة في تقرير المسؤولية عن الانتهاكات وإعداد قوائم المتهمين، وهي مسؤولية خطيرة في ظل عدم وضوح متطلبات التحقيق في الجرائم ووجود نزاع على السلطة واتساع نطاق العنف؛ مما يثير القلق حول تداخل الاعتبارات السياسية في تشكيل القوائم الجنائية أو في تقييم انتهاكات القرار الدولي كما جاءت في البنود (9 – 11) والمتعلقة بالترتيبات الخاصة بحظر تصدير السلاح لداخل البلاد، حيث لا تتبع البعثة قوات دولية لتأمين الحدود ومراقبتها، وتعتمد على تفويض دول الجوار في تفتيش الأفراد والشحنات الواردة من ليبيا أو الصادرة إليها، وذلك وفق القوانين المحلية والدولية وقانون البحار.

وتأتي هذه القيود بالتزامن مع انتهاء المرحلة الأولى (تحرير طرابلس) من عملية “فجر ليبيا”، حيث توسع دور البعثة الدولية في الرقابة على كل التطورات وتصرفات الكيانات والأفراد، وكانت مسألة عدم الاعتراف الدولي واحدة من القيود التي وضعتها الأمم المتحدة في مواجهة الأوضاع السياسية في طرابلس، فقد حاولت بريطانيا طرح تسويات تقوم على استمرار مجلس النواب كمسار انتقالي وأجراء تعديلات محدودة للعزل السياسي، وذلك في مقابل تنازلات محدودة تتمثل في الاعتراف بشرعية “فجر ليبيا” كطرف سياسي.

وهذه الصيغة تعبر عن اختلال الإطار التفاوضي لصالح عملية “الكرامة”، حيث لم تكتسب “فجر ليبيا” سوى الاعتراف الدولي ككيان سياسي، ولكنه خارج المؤسسات الدستورية، وتظهر في شكل تيار سياسي أو دمج عناصرها في الجيش الوطني، ووفق هذا التصور ترجع المسألة الليبية لوضع ما قبل 7 فبراير 2014م، والفكرة الأساسية هنا تتمثل في تقويض الأوضاع السياسية والعسكرية التي حققتها “فجر ليبيا” منذ يوليو 2014م، والتفاوض حول عودة سلطة البرلمان للمنطقة الغربية بكل تحالفاته مع “الكرامة” وارتباطاته الدولية.

جـ- الأمم المتحدة والوضع الدستوري:

وفق (البند 2174/ 3) خاطب القرار مجلس النواب والهيئة التأسيسية، وذلك في نطاق تحمل التزاماتهما كمنبر لجميع الأطراف، ولا تتحيز لجهة دون أخرى، كما دعا جميع الأطراف للدخول في حوار سياسي شامل بقيادة ليبية، ومن الوجهة القانونية يعد ربط الحوار والمهام الوطنية لمجلس النواب، هو أن يضطلع المجلس بالترتيب للحوار الوطني، ويعد الإشارة لعقد الحوار تحت قيادة ليبية بمثابة فرض جهة رئيسة (النواب) للاضطلاع بهذه المهمة، رغم وجود نزاع دستوري حول البرلمان واتساع نطاق الأزمة السياسية.

غير أنه من الناحية السياسية ربطت الأمم المتحدة الوضع في ليبيا بنتائج الحوار السياسي ومشاركة جميع الأطراف؛ وهو ما يعني وجود قيود على مؤسسات الدولة في تجاوز الحوار السياسي، رغم غياب الوضوح في تعريف الأطراف السياسية مما يتيح الفرصة لتجاوز الواقع السياسي بناء على معايير متحيزة.

وتبدو مسألة الاعتراف بمجلس النواب (طبرق) لدى الأمم المتحدة أكثر وضوحاً وحسماً من أي وقت مضى، وهنا يبدو الجدل مشروعاً حول الصيغة المثلى للحوار السياسي حتى لا يتحول لوسيلة لإطالة الأزمة، فكل التصرفات التي صدرت عن بعثة الدعم في ليبيا ومجلس الأمن تتلاقى مع مطالب الحكومة، حيث اتجه لزيادة صلاحيات البعثة الدولية، كما وسع من نطاق الرقابة الدولية على تصرفات وتحركات الليبيين المدرجين في القوائم الدولية أو المحتمل إدراجهم، وهذه العملية صارت تتم من جهتين؛ الحكومة الليبية وحلفاؤها في الخارج، والبعثة الدولية، ولكنه كان لافتاً وقف الحظر على أموال “أحمد قذاف الدم” دون إعلان نتائج التحقيقات حول الاتهامات الموجهة إليه.

وبشكل عام، يسير الموقف الدولي باتجاه الاعتراف بوضع مجلس النواب مع اتخاذ تدابير لامتصاص الأزمة في دائرة الحوار السياسي، فاعتبرت الأمم المتحدة مجلس النواب السلطة الدستورية الوحيدة في ليبيا، فيما تجاهلت عودة المؤتمر الوطني لممارسة صلاحياته، رغم نشوب جدل دستوري حول مشروعية مجلس النواب، وركزت فقط على التعامل مع مجلس النواب، ويمكن تفسير هذا الموقف بأنها ركنت للمبررات القانونية كعامل رئيس في الانحياز لمجلس النواب رغم الطعون الدستورية القائمة على ‏عدم التزامه بالإجراءات الدستورية لنقل السلطة، وتجاهل انحسار سلطته على غالبية الأراضي الليبية، فيما أن المؤتمر الوطني يربط استئناف عمله بالتفويض الشعبي وتأييد عملية “فجر ليبيا”، مما ساعده على المضي في اتخاذ قرارات كان أهمها تشكيل حكومة الإنقاذ الوطني (عمر الحاسي) واستكمال تشكيلها وبسط سيطرتها علي غالبية الأراضي الليبية.

د- مطالب حكومة “طبرق”:

منذ اندلاع الأزمة السياسية في مايو 2014م، اتجهت حكومة تسيير الأعمال للانطلاق بمطالبها حتى سقف طلب التدخل الدولي وتحويل خصومها للجنائية الدولية، وقد اعتبرت مطالب الحكومة حالة من التصعيد السياسي تقضي على فرص الحلول السياسية.

وخلال عدة جلسات، ركزت تعليقات المندوب الليبي لدى الأمم المتحدة إبراهيم الدباشي تطلعات الحكومة في فرض قيود واسعة على المنظمات “الإرهابية”، فقد ركزت مطالبها على أن مساعدة الليبيين تكون في نزع سلاح ‏المجموعات المسلحة الخارجة على الشرعية، وأن الانصياع لقرارات مجلس النواب بحل التشكيلات المسلحة هو الخيار الوحيد للمسلحين وفق بديلين؛ إما تسليم السلاح للجيش دون تحديد لدور “المسلحين” داخل مؤسسات ‏الدولة، أو يوافق (المسلحون) على قدوم قوة عربية أو إسلامية محدودة العدد لاستلام الأسلحة وتخزينها وتأمينها.

 ويقوم جوهر سياسة حكومة طبرق لنزع السلاح على تنازل جميع المليشيات والعناصر المسلحة وفق نهج متدرج ‏المراحل ومتزامن عن السلاح والخيار العسكري تحت مظلة اتفاق سياسي شامل وبرعاية إقليمية ومساندة دولية، كما تطابق أيضاً في التأكيد على التزام الأطراف ‏الخارجية بالامتناع عن توريد وتزويد السلاح لثوار “فجر ليبيا” وثوار بنغازي وتعزيز المراقبة على كافة المنافذ ‏البحرية والجوية والبرية الليبية.

وفي كلمته أمام الجمعية العامة، انتقد رئيس نواب طبرق (عقيلة صالح) الحركات السياسية المختلفة مع مجلس النواب واعتبرها حركات إرهابية خارجة على الشرعية، وهي مواقف تعد مكملة لقرارات مجلس الأمن والمندوب الليبي، فيما أن الاختلاف الوحيد بين حكومة “طبرق” والأمم المتحدة يتعلق برفض طلب التدخل العسكري المباشر والبدء بإجراءات هي أقرب للوصاية الدولية، وهذا ما يشكل معضلة أمام صيغة الحوار الوطني كما تطرحها بعثة “ليون”، فالمعضلة ترجع لعدم تناسق سياسة الأمم المتحدة في معالجة الأزمة الليبية، حيث لم تتخذ تدابير تحد من مغالاة حكومة “طبرق” في اتهام “فجر ليبيا” بأنها منظمات إرهابية مما ساهم في زيادة سوء المناخ وانخفاض فرص الحوار في التوصل لتسوية سياسية.

هـ- دول جوار ليبيا:

ركز بيان “حوار ليبيا” على ثلاثة مبادئ تدعم سيادة ليبيا ووحدة أراضيها وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والحفاظ على ‏استقلالها السياسي، غير أن البيان وقع في تناقضات مع المبادئ التي تضمنتها الديباجة، وذلك من وجهين؛ الأول: أنه اعتبر ‏مجلس النواب يمثل قمة السلطة السياسية في ليبيا، وهو ما يتناقض مع مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، ويقلل من أهمية ‏وجدوى الحوار السياسي، حيث إن الجدل حول شرعية مجلس النواب يعد واحدة من مفردات الأزمة في ليبيا، وبالتالي، فإن ‏حسم هذه المسألة أو تجاوزها لا يساعد على البدء بحوار سياسي.

ويتضح من البيانات المتتالية لدول جوار ليبيا وجود اتجاه لتشكيل آليات دائمة لمراقبة الأوضاع السياسية في ليبيا ووضعها ‏تحت إشراف دول الجوار، وقد بلور البيان (25 أغسطس) هذا الجانب بالمطالبة بإنشاء آلية بإشراف وزراء خارجية دول ‏الجوار لمتابعة تنفيذ ما تضمنته قرارات المجموعة، وذلك بالتعاون مع المبعوثين العربي والأفريقي، وهو ما يضع ليبيا تحت ‏مظلة صيغ متعددة للتدخل الدولي لا تقتصر فقط على مجلس الأمن أو المنظمات القارية (الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية)، ولكنها تمتد لطرح صيغ جديدة لم تتضمنها القرارات الدولية، وبالتالي، سوف يشكل إطار دول الجوار حالة أقرب للوصاية ‏الدولية منها إلى المساعدة في الخروج من الأزمة، ويشكل تحيزها لصالح مجلس النواب نوعاً من التدخل في النزاعات ‏الدستورية الداخلية واستباقاً للسلطات المحلية.

ثالثاً: حوار “غدامس”.. الخلط بين السياسي والقانوني:

ارتكزت دعوة البعثة الدولية للحوار على جانبين؛ وقف إطلاق النار ومشاركة جميع الأطراف في الحوار السياسي في ظل احترام الديمقراطية، وفي ظل غموض تعريف الأطراف المعنية بالحوار السياسي، استقرت البعثة الدولية على تعريفهم بالنواب المعنيين بالأزمة الدستورية، ومن ثم اقتصر المشاركون في حوار “غدامس” (29 سبتمبر) على أعضاء مجلس النواب وتحت رعاية البعثة الأممية، وهو ترسيخ للتوجهات التي ترى أن مشكلة ليبيا تكمن في مجلس النواب والاعتراف الكامل به كسلطة دستورية.

ولهذا حاولت البعثة بلورة إطار للتفاوض يتناول فقط الترتيبات اللازمة لاستكمال المجلس شكله الدستوري، وتأجيل النظر في ملفات الصراع السياسي الأخرى لمرحلة لاحقة، وهو ما يعكس انحسار رؤية الأمم المتحدة للمشكلات في ليبيا في الإقرار بالوضع القائم لمجلس طبرق ودفع النواب المقاطعين لحضور جلساته، وتجاوز الخلاف الدستوري.

ولذلك ظهرت مفاوضات “غدامس” كحوار بين البرلمانيين وبشكل لا يعكس الواقع السياسي في ليبيا، حيث توجد أطراف أخرى غير ممثلة في مجلس النواب، كما أن الأزمة السياسية تفاقمت نتيجة  تحيزات مجلس النواب وأخذت أبعاداً حزبية وقبلية، وبالتالي لا تستوعب الصيغة الحالية للحوار الحد الأدنى من أطراف العملية السياسية في ليبيا.

ويبدو من خلال الجلسة الأولى لحوار غدامس أن خلفية مواقف البعثة الدولية، تميل نحو اعتبار أن مجال نشاطها يقتصر على منطقة غرب ليبيا، فمن خلال التصريح حول نتائج ملتقى “غدامس” كانت المطالبة بوقف إطلاق النار تنصرف فقط إلى عملية “فجر ليبيا”، وهذا ما يتضح من خلال توجيه البعثة لضرورة وقف إطلاق النار وسكوتها عن اتهامات الحكومة الليبية (عبدالله الثني) وبرلمان “طبرق” لقوات “فجر ليبيا” بأنها مليشيات إرهابية استولت على مؤسسات الدولة في العاصمة (طرابلس)، وهذا الاتهام لا يقتصر فقط على الجماعات المسلحة، ولكنه يمتد لأعضاء المؤتمر الوطني وحكومة الإنقاذ الوطني (عمر الحاسي)، وفي ذات الوقت لم تدرج أحداث بنغازي في الحوار السياسي أو تأكيد أو نفي الأخبار المتواترة عن توريد أسلحة مصرية لليبيا عبر ميناء “طبرق” دون التنسيق مع البعثة، وهو ما يعتبر تقصيراً في متابعة الالتزام بتطبيق القرارات الدولية.

ولدى المقارنة بين مبادرة بعثة الدعم الدولية في يونيو 2014م وبين مبادرتها للحوار في 23 سبتمبر، يلاحظ وجود تغير في نظرتها لتسوية الأزمة في ليبيا، فبينما كانت مقترحات “طارق متري” شاملة لكل أطراف التفاوض ولكل الملفات السياسية وواضحة الخطوات والإجراءات، فإن مقترحات “ليون” بدت جزئية ولم تشمل كل الكيانات السياسية أو أخذ رأيها بعين الاعتبار.

فقد اعتمد تصميم مبادرة “متري” على أن الأزمة في ليبيا تتطلب مشاركة الأحزاب السياسية وممثلي الكيانات العسكرية، ولهذا الغرض وجه الدعوة لخمسين شخصية من كل المناطق للتفاوض حول سبل إحلال السلام في كل البلاد، ولم يكن ثمة تمييز بين شرق وغرب البلاد، ولكنه بالنظر لبيان بعثة الأمم المتحدة “برناردينو ليون” في 23 سبتمبر يتناول الحوار الوطني تصحيح الوضع الدستوري لمجلس النواب، من خلال الحوار بين النواب في طبرق والنواب المقاطعين للجلسات، وهذا التوجه يحدد تعريفاً ضيقاً للأزمة السياسية في ليبيا، حيث يعتبرها مشكلة تتعلق بتسوية الخلافات في مجلس النواب، حيث بدا وكأنه حوار داخل المجلس فيما تنحسر سلطته في بؤر ضيقة ومحدودة.

كان من المتوقع وفق تقارير الأمين العام والبعثة الدولية خلال النصف الأول من عام 2014م، تخفيف القيود الواردة في القرار (2095)، لكن رفض “تحالف القوى الوطنية” و”عملية الكرامة” لمبادرة الأمم المتحدة في 13 يونيو 2014م جعل اللجوء للسلاح خياراً مفتوحاً لكل الأطراف؛ وبالتالي، فإن تجاوز البعثة الدولية لهذه الوقائع يعني في المقام الأول أنها تتبنى خياراً افتراضياً يقوم على أن تاريخ الأزمة السياسية يبدأ من تشكيل مجلس النواب في 4 أغسطس 2014م، وليس ثمة اعتبار لخلفيات الأزمة وطبيعتها، وهذا ما يثير النقاش حول تصورات الأمم لمتحدة لتسوية الأزمة في ليبيا.

وهنا تبدو الملاحظة الأساسية حول دور الأمم المتحدة، تدور حول طرح رؤيتها للحل السياسي في سياق تناقضات أولوية تسليم السلاح وبناء الديمقراطية دون وضوح أفق للاستقرار الدستوري، أو وضوح سياسات تكوين المؤسسات والتوجه نحو حكومة الوحدة الوطنية، ولذلك تبدو الأمم المتحدة ماضية في التوجه نحو الخلط بين الثوار والإرهاب، والتركيز على نزع السلاح غير المنظم كحل وحيد لأزمة سياسية تتداخل فيها الأبعاد الدينية والاجتماعية والدولية، فكما تسببت اغتيالات بنغازي شروخاً اجتماعية، فقد خلفت المعارك الكثير من القتلى والعدائيات التي تتطلب مبادرات خلاقة لإعادة ترتيب الملفات السياسية.

وفي ظل هذه التعقيدات الهائلة، لا يبدو أن الأمم المتحدة تضع الحوار السياسي كأولوية في الترتيبات السياسية، وهذا ما يتضح في السير المتوازي نحو فرض العقوبات ضد الأفراد والكيانات (الإرهابيين)، وتضييق نطاق الحوار ليقتصر فقط على تأكيد مشروعية مجلس نواب “طبرق”؛ وهذا ما يعكس الاقتراب من توظيف حق التدخل والإشراف في تحديد شرعية المؤسسات وفق اعتبارات تبدو سياسية لا قانونية، واعتبار المفاوضات في “غدامس” بمثابة مبادرة الفرصة الأخيرة.. وهنا يمكن القول: إن دور الأمم المتحدة في ليبيا يشهد تغيرات نوعية لا تراعي الواقع السياسي؛ مما يدفع باتجاه انخفاض فرص الاستقرار واقتراب من الفوضى.

 

 

Exit mobile version