الثوار العرب.. بين الحفاظ على المبادئ أو رغد العيش

جاء حراك “الربيع العربي”، ليكشف عن نوع جديد من “الثوار” ويطرح السؤال حول غياب “الثوار التقليدين” الذين كان لهم صولات وجولات في ميادين القرن الماضي

جاء حراك “الربيع العربي”، ليكشف عن نوع جديد من “الثوار” ويطرح السؤال حول غياب “الثوار التقليدين” الذين كان لهم صولات وجولات في ميادين القرن الماضي، من خلال الكفاح ضد الاستعمار الأجنبي، ثم مقاومة الاحتلال “الإسرائيلي” للأراضي العربية، وأيضاً النضال ضد الأنظمة الدكتاتورية والقمعية.    

مع نزول ملايين المتظاهرين إلى الشوارع في كل من تونس ثم مصر وبعدها ليبيا وسورية واليمن والبحرين، تبدلت أمور كثيرة، واستطاعت بعض هذه الشعوب، أن تغير أنظمتها بطريقة سلمية على الرغم من محاولات قمعها بالعنف، لكن فشلت شعوب أخرى في تحقيق أهدافها وقلب أنظمتها؛ ما أدى إلى إفراز حركات جديدة، كان ظاهرها “ثورياً”، أما مضمونها فمتروك تصنيفه للدور الذي تقوم به على مختلف الساحات العربية.

ومن كان “ثورياً” في السابق ينادي بالحرية ورفع الظلم عن الشعوب، أصبح مدافعاً شرساً عن الأنظمة القمعية، ومن كان مع السلطة والنظام، انشق وبات يناصر “الثوريين” لأسباب تتعلق بالمصالح الجديدة الناشئة.

وعرف طلال عتريسي، عميد المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية وأستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية، في لقاء خاص مع “الأناضول”، الثورة بأنها “عملية تغيير شاملة يتم من خلالها استبدال نظام بنظام جديد مع كل ما يتعلق ببنية وهياكل ومؤسسات هذا النظام، كما يستتبع ذلك عادة بناء مستوى أيديولوجي أحياناً وتغيير في طبيعة النظام الاقتصادي وطبيعة العلاقات الخارجية لهذه الدولة وتغير شبكة المصالح التي كانت موجودة سابقاً”.

ولأن الثورة من حيث المبدأ، عملية تغيير شاملة، لم يجد أمين قمورية، الصحفي والكاتب، الذي ناصر القضية الفلسطينية، أنه من المفيد الاستمرار في هذا الطريق، بعد الشعور بالفشل والعجز عن تحقيق التغيير المنشود، على حد قوله.

وآثر قمورية بعد سنوات من النضال “الخروج من المسرح السياسي”، و”الاكتفاء بالمراقبة من الخارج على طريقة حكام الملاعب الذين يتفرجون على المباريات من خارج الملعب”.

وعادة ما يتحدث من بدلوا مواقفهم الثورية عن أسباب يحاولون من خلالها التبرير لأنفسهم، لكن من وجهة نظر علمية، لفت عتريسي إلى أسباب واقعية لتبدل الثوريين منها ما يتعلق بتحقيق الثورة لأهدافها؛ الأمر الذي يتيح للأفراد المنتقلين من معسكر إلى آخر حرية التحرك في سبيل البحث عن شؤونهم الخاصة وعن حياة الرغد والرخاء التي تختلف عن حياة الثورة، وأيضاً اكتشاف الثوري أن الطريق الذي اختاره كان مكلفاً وهو غير مستعد لأن يدفع أثماناً في سبيل ذلك فيلتحق بمشروع آخر.

وتابع أن مجموع هذه العوامل تساعدنا على تفسير هذا التحول، مستطرداً: هناك ثوريون كثر غيروا توجهاتهم، وحصل ذلك في الثورة الفرنسية والشيوعية، وفي الثورات الحديثة كالفلسطينية والإيرانية.

هنا قال قمورية: بعد انهيار الحلم بالمشروع الماركسي وسقوط الاتحاد السوفييتي، وسقوط الحلم بالتغيير وتطبيق الاشتراكية، هناك اليوم صراع طائفي هو صراع أمم وقوميات، لا مكان لنا في هذا الصراع، نحن لسنا لاعبين في أي معادلة.

وعن اعتزاله العمل الثوري، أوضح: لدي تجربة أخذت من جهدي ووقتي، صحيح أن النضال يجب ألا يتوقف، لكني شعرت بأن الطريق الذي أسلكه لن يوصل إلى أي مكان، مضيفاً: لم أعد قادراً على التغيير أو الانتماء إلى أي مكان آخر، لذلك وجدت أنه من الأسلم لي الحفاظ على نفسي وعلى مبادئي، وإذا استطعت أن أحمي ذاتي من الإغراءات حولي.. برأي هذا إنجاز بحد ذاته.

بالنسبة لقمورية، أصبح الحديث عن الديمقراطية مضحكاً بالنسبة للفئات الشعبية بكافة طبقاتها، أما الحرية فتلك قضية أخرى لكنها مضحكة بدورها أيضاً، ووحدها القضية الفلسطينية ما زالت أساسية بالنسبة إليه، ويجب توجيه البوصلة ناحيتها، وهو في هذا السياق يلتقي مع “حزب الله” في مقاومته لـ”إسرائيل”، لكنه يختلف معه في جوانب أخرى، على حد قوله.

وتعليقاً على الذين يغيرون مواقعهم بحسب ما يريده رأس المال، قال قمورية: أنا لست ضد المال، لكن ذلك لا يعني أن يبيع الإنسان كل ما يملكه من مبادئ وأفكار وقيم في سبيله.

وتؤكد التجارب أن الحراك الثوري شهد مراحل متقلبة في تاريخه، عرف نماذج متنوعة من الانتهازيين المتخصصين في اقتناص الفرص، فهناك انتهازيون كاذبون، عندما فشلوا بتحقيق مكاسب في المشاريع التي كانوا يعملون لأجلها، ذهبوا إلى أماكن أخرى، بحسب قمورية.

لكنه لفت إلى أن من كانوا في الأحزاب الثورية، لم يكونوا كلهم شرفاء، بعضهم كان يتصرف كقديس وآخر كانتهازي.

وعن الذين تحولوا عن مبادئهم الثورية، قال: أشعر أنهم كانوا يضحكون علينا عندما كانوا إلى جانبنا وكانوا يحاولون إقناعنا بأنهم شرفاء.

في المقابل، يبدو ماهر اليماني، عضو قيادة في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وابن القائد والمناضل الفلسطيني أحمد حسين اليماني (المعروف بأبو ماهر)، مقتنعاً بالأفكار الثورية التي ورثها عن والده حتى اليوم.

ويقول ماهر، الذي نشأ في بيئة حاضنة للثورة، لـ”الأناضول”: كانت عائلتي تنتمي لحركة القوميين العرب، وعلى هذا كنت جزءاً من هذه المنظومة منذ الصغر.

أولى نضالات ماهر أتت في إطار الحركة الطلابية، حيث كان ناشطاً في كل التظاهرات التي نفذت لأجل تحصيل حقوق الفلسطينيين، ويقول في هذا الإطار: لم أعرف حياة شخصية ولا الماديات، لقد كانت في آخر لائحتي ولا تزال وستظل كذلك؛ لأن المؤمنين بفلسطين يتشكل لديهم رادع أخلاقي يمنعهم من الخضوع لأي إغراءات من أي نوع كانت.

وقال: إنه لم يستفد مادياً من الثورة ولا يريد ذلك، والمبادئ والأفكار التي يحملها جعلته مختلفاً عن أولئك المتكسبين، فهم تافهون منحرفون قد يبيعون أنفسهم حتى للعدو وعلى حساب قضية أبناء شعبهم، وأضاف: أرفض المال أو التملق للإفادة الذاتية، لأن قضيتنا أكبر منا كأفراد.

بعد سنين على اختياره لهذا الخط، ورغم الظروف المادية الصعبة، يرفض اليماني الحديث عن العجز أو الفشل بل هو مستعد للمضي قدماً في النهج الثوري حتى النهاية.

وبطريقة يملأها الحنين إلى ذكريات الماضي قال: لو تسنى لي أن أعود صغيراً لما اخترت غير هذا الخط وهذا النهج والسلوك، لأنني أعتبر أنه يؤسس لأجيال لاحقة سيهمها يوماً أن ترى رموزاً للثورة تفتخر وتعتز بها، وتبني على إنجازاتها لتحقيق التغيير الذي نرغب به كثوريين.

وهو لا يزال حتى اليوم مؤمناً بإمكانية حدوث التغيير وانتصار العمل الثوري في النهاية، فالشعوب إن حكت يمكنها أن تحدث التغيير نحو الأفضل، على حد تعبيره.

وبالعودة إلى الحراك العربي الأخير يمكن القول: إن هناك شعوباً عربية استطاعت أن تحقق المعجزة وتهزم الدكتاتورية في بلدانها، لكن مراجعة بسيطة لتاريخ الحراك الثوري العربي، يشير بما لا يقبل الجدل، إلى أن النظريات الشيوعية والقومية والبعثية وفي يومنا هذا الدينية، كلها فشلت في أن تبني دولاً ديمقراطية أو أنظمة يمكنها الاستمرار، حسب مراقبين.

وغيرت الكثير من الحركات الثورية العربية نهجها باتجاه العمل السياسي على أساس فسح المجال أمام الدبلوماسية لتحرير الأراضي العربية التي مازالت محتلة، أما “الثوريون” فتوزعوا على أحزاب وتنظيمات مختلفة عن تلك التي كانوا ينتمون إليها سواء في لبنان أو فلسطين أو سورية أو مصر أو الأردن وباقي الأقطار العربية، ومن هؤلاء من هم اليوم في مواقع السلطة أو يقيمون أعمالاً تجارية خاصة ولديهم مصالحهم التي يتكسبون منها، والتي بني بعضها “المصالح” من أموال حصلوا عليها من “الثورة” يوم كانوا يلبسون رداءها.

بين سقوط النظريات والسعي وراء المال والمصالح الذاتية، يختصر قمورية مشهد الحراك الثوري الراهن، قائلاً: “لم يعد هناك ثوريون بل مهابيل، ولم يعد هناك ثورة بل هبل ثوري”!

Exit mobile version