صناعة الأزمات: البرلمان الليبي يمنح الشرعية لكيانات مسلحة

لا يشكل إعلان البرلمان الليبي (طبرق) عن التحالف مع عملية “الكرامة” واقعاً جديداً في السياسة الليبية، حيث إن هذا القرار يعد امتداداً لترتيبات سابقة تتعلق بتبني الموالين لنظام القذافي لرؤية للمرحلة الانتقالية تقوم على قواعد وأهداف تخالف السياق الدستوري

د. خيري عمر

لا يشكل إعلان البرلمان الليبي (طبرق) عن التحالف مع عملية “الكرامة” واقعاً جديداً في السياسة الليبية، حيث إن هذا القرار يعد امتداداً لترتيبات سابقة تتعلق بتبني الموالين لنظام القذافي لرؤية للمرحلة الانتقالية تقوم على قواعد وأهداف تخالف السياق الدستوري الانتقالي الذي تم إقراره في أغسطس 2011م، وهو ما يفسر تكرار المحاولات الانقلابية التي وقعت أحداثها منذ فبراير 2014م والتي أعلن فيها العقيد المتقاعد “خليفة حفتر” عن تعطيل المؤتمر الوطني والحكومة، وتشكيل حكومة انتقالية جديدة.

ومنذ عام 2012م كان هناك توجه لدى أنصار “القذافي” لإغادة بناء الجيش بمعزل عن ثوار فبراير، وعلى هذا الأساس تبلورت فكرة عملية “الكرامة” لتقوم على أساس مقترح “خليفة حفتر” (30 يونيو 2013م) والذي ورد تحت عنوان “أولويات المرحلة القادمة”، ويتضمن خطة طوارئ لإنقاذ الوضع الأمني في ليبيا، وتدور المقترح على عدم صلاحية المؤتمر الوطني للاستمرار في إدارة المرحلة الانتقالية، ومن ثم طالب بتعطيله واعتباره كمجلس تأسيسي تختزل مهمته في إصدار التشريعات الانتقالية، كما تبنى تشكيل حكومة جديدة من 12 وزيراً.

ويتكون الجزء الثاني من خطة الإنقاذ، في تكوين الجيش ومنحه صلاحيات واسعة لفرض الأمن وإعلان حالة الطوارئ، وإدماج الثوار في الجيش بتكوينه الجديد، ويتم تنفيذ السياسة الأمنية تحت رقابة المؤتمر الوطني.

كما طالب بالبدء في التمهيد لمرحلة انتقالية ثالثة عبر حوار وطني يشمل كافة الأحزاب والقبائل وقادة فصائل الثوار وبمشاركة المؤتمر الوطني والحكومة، تكون نتائج ملزمة لكل الأطراف السياسية، وتقوم قاعدة الحوار الوطني على التوافق على الحد الأدنى لمطالب كل طرف من (مدن، قبائل، أحزاب، ثوار)، ويتم استكمال الحوار الوطني من خلال الإعداد لوضع الرؤية الإستراتيجية من خلال صيغة “المؤتمر الوطني الجامع”، والذي ينعقد عبر مراحل في طرابلس وسبها وبنغازي، للمساعدة في وضع أسس تحديث الدولة.

ويضمن هذا المقترح وجود الجيش كطرف رئيس في سياسات الدولة، فيما تتلاشى سلطات المؤتمر الوطني، ويتوزع جزء كبير منها بين الجيش الوطني و”المؤتمر الوطني الجامع”، وبجانب هذا التغيير في هيكل سلطات الفترة الانتقالية، لم يحدد المقترح موقفه من الإعلان الدستوري، وخصوصاً في ظل تقديم “حفتر” لنفسه كقائد سابق لأركان الجيش.

ورغم اعتماد مقترح “أولويات المرحلة القادمة” على تصورات للانتقال السياسي السلمي، فإنه مع بداية عام 2014م اتجه للحلول العسكرية، حيث أعلن عن ثلاث محاولات انقلابية، وفي 16 مايو 2014م أعلن عن بدء “عملية الكرامة” للسيطرة على بنغازي، لتشكل المحاولة الأخيرة للسيطرة على مؤسسات الدولة، وذلك بمساعدة عسكريين سابقين وبعض وحدات الجيش الليبي والمتطوعين، ولكن عملية “الكرامة” لم تشهد تقدماً في مواجهة الكيانات الثورية، ونتائجها تتقارب مع المحاولات الانقلابية السابقة، ولكنه يسعى لتكوين جناح سياسي في مجلس النواب، يرتكز على نواب التيار المدني، والنواب الجهويين.

وفي يوليو 2012م بدا اتجاه لدعوة جنود الجيش الليبي للعودة لمعسكراتهم لاستكمال بناء الجيش، وذلك على اعتبار أن قيادات الجيش الليبي والرتب الصغيرة والجنود لم يكونوا في يوم ما من المناصرين لـ”القذافي”، وأن وجودهم تحت الانضباط العسكري والخوف من الكتائب الأمنية التي كانت شديدة الولاء له، وقامت هذه الفكرة على أن عودة الجنود يكون لملء الفراغ الذي يشهده الجيش والشرطة وموازنة المليشيات المسلحة والثوار.

وقبل أيام قليلة من تشكيل حكومة عبدالله الثني، صدر بيان في 19 مارس 2014م، حيث أكد أن مدن بنغازي ودرنة وسرت تواجه هجوماً إرهابياً، وأن الدولة صارت في مواجهة مع الجماعات الإرهابية، ويتطلب الاستعانة بكل القدرات العسكرية للدولة والأمم المتحدة لمواجهة الإرهاب والجماعات الإرهابية، ورغم تكرار طلب الحكومة بمواجهة الجماعات، لكنها لم تحدد مسميات أو أسماء لهذه الجماعات، وهو ما يعني فتح الاحتمالات لوضع قوائم للإرهاب حسب الظروف المتغيرة التي تشهدها ليبيا، ولعل صدور هذا البيان قبل استقرار المؤتمر على منح الثقة للحكومة الجديدة؛ يوضح استمرار التوجهات المثيرة للصراع والأزمات، وهي لا تختلف في مضمونها عن المحاولات الانقلابية التي تبناها أنصار النظام السابق.

وعلى المستوى السياسي، تمكن أنصار النظام السابق من الحصول على تأييد حوالي 60 نائباً، وهذه النتيجة ترجع لتأجيل المفوضية الوطنية للانتخابات تطبيق قواعد “هيئة النزاهة” على المرشحين لما بعد إعلان النتائج المرحلية، وقد ساهمت هذه الإجراءات في وصول عدد كبير من المرشحين وأنصار “القذافي” لمجلس النواب رغم تشتت نتائج الانتخابات وتراجع الأحزاب السياسية.

ورغم إجراء انتخابات مجلس النواب في 25 يونيو 2014م تفاقمت الأزمة السياسية بما شكل معضلة في المرحلة الانتقالية، فإن إجراء انتخابات بنغازي تحت استمرار القصف الجوي زاد من الشكوك حول سلامة نتائج الانتخابات، فقد خلق قصف الطيران حالة اضطراب حالت دون توجه المراقبين إلى مراكز الانتخابات وعزوف الناخبين عن الـتوجه لـمراكز الانتخابات.

ويمكن القول: إن البيانات والتصريحات الموالية قامت على اعتبار تكوين الجيش يلقى الأولوية دون المؤسسات الأخرى، بحيث تشير إلى أن البرلمان هو السلطة التشريعية للجيش الذي يهيمن على كل المؤسسات، لكنه، على أي حال، لا يبدو حدوث تغييرات جذرية في المشهد السياسي في ليبيا، حيث تستمر المواجهات المسلحة في بنغازي وتغيب سيطرة حكومة “طبرق” عن غالبية المناطق، وهو ما يخلق مناخاً مرتبكاً يساهم في تعقيد الموقف السياسي.

وتكمن أهمية إعلان برلمان “طبرق” بالتحالف مع مليشيات “حفتر” في أنه يضفي عليها المشروعية القانونية، وترويجها على أنها نواة “الجيش الليبي”، وهي خطوة تأتي في سياق متماثل مع مواقف شركاء ليبيا ودول إقليمية في الحديث عن “أولوية بناء الجيش الوطني” وحل كل المجموعات المسلحة، وكانت ثمة إشارات واضحة في البيان المشترك لدول أوروبية والولايات المتحدة والذي ساوى بين عمليتي “فجر ليبيا” و”الكرامة” بأنهما كيانات غير شرعية، وتخالف القانون الدولي باستمرار عدم التزامها بوقف إطلاق النار.

ويساهم تسارع الأحداث في ليبيا إلى تبلور التناقضات السياسية والعسكرية، فقد ظلت قرارات مجلس النواب (طبرق) على صلة قوية بتعقيدات المشهد السياسي، فمنذ انعقاده شكلت القرارات الصادرة عنه محور الخلاف والصراع المسلحة، ولم يتبنَّ تصوراً للحلول السلمية أو يتضامن مع مقترحات الأمم المتحدة للحوار، ولعل هذه التوجهات تجعل مهمة جمع السلاح مستحيلة؛ لتعذر وجود مناخ الثقة وهيمنة الخلافات على العلاقات بين الأطراف الليبية.

في ظل هذه الظروف، لم يكن من المتوقع صدور مبادرة من البرلمان (طبرق) تدعم مسار الحوار الوطني في “غدامس”، وهذا يرجع لتلاقي عدد من العوامل، يأتي في مقدمتها التحالف الطبيعي مع “الكرامة” والذي أعلن عنه كثير من المرشحين في الانتخابات التشريعية بشكل يوضح أن البرلمان يقترب من كونه الجناح السياسي للعملية المسلحة أو الجيش في مرحلة لاحقة، كما أنه يستفيد من الاعتراف الدولي في إسباغ الشرعية على تصرفاته وقراراته.

 ورغم انتقال بعثة الدعم في ليبيا نحو التحيز للبرلمان الليبي، فإن اتساع نطاق المعارك وتراجع الحلول السياسية سوف يساهم في زيادة حدة الصراع السياسي دون أفق واضح في المستقبل القريب، حتى لو كان عن طريق التدخل الدولي المباشر، فالأزمة لسياسية في ليبيا تتطلب إعادة بناء مسار الحوار السياسي والفترة الانتقالية.

 

 

Exit mobile version