رؤية تحليلية: حروب القرن الجديد.. مرتزقة الرأسمالية

أبرز المناطق التي تتواجد فيها تلك الشركات هي الدول اللاتينية، والتي تستعين فيها العديد من شركات التعدين والبترول

بعد ساعات من وصوله إلى بلده بيرو، توفي “ويلدر جتيريز روبيو”، الذي تم تشخصيه في العراق بسرطان الدم قبل أيام من عودته، كان “روبيو” جزءاً من قوة من مائتي حارس تحمي المنطقة الخضراء في بغداد، والتي تضم السفارتين الأمريكية والبريطانية، والقيادة المركزية الأمريكية، والوزارات العراقية، بعد تشخيصه أعادته الشركة المتعاقدة معه إلى موطنه، العاصمة ليما، ليموت هناك، بعد أن أصبح دون فائدة، على الأرجح، كانت إصابة “روبيو” بالسرطان بسبب التعرّض لمستويات مرتفعة من اليورانيوم في العراق، إذ كان يتمتع بصحة جيدة جداً قبل سفره، كما قال أهله وجيرانه.

قبله بأسابيع، قُتِل مواطنه البيروفي “مارتِن خارا هيتشارد” في كابول، ولم تُعرَف ملابسات قتله حتى الآن، وقعت هاتان الحادثتان عام ٢٠٠٥م، ولم تثيرا ضجة كبيرة، ونُسي اسما “روبيو”، و”هيتشارد” بمرور الوقت، هذا إن كانا قد تجاوزا أصلاً نطاق ذويهما والمتعاقدين معهما من شركات الأمن الأمريكية الخاصة (١، ٢)، ولكن اسميهما، وأسماء المئات من المرتزقة في العراق وأفغانستان، لم تغب عن أذهان المهتمين بظاهرة تصاعد دور المرتزقة عالمياً.

“بزنس” المرتزقة

تنتشر اليوم شركات الأمن، كما تسمي نفسها، في شتى أنحاء العالم، من أفغانستان إلى الكونغو، وتعتمد على الفقراء من المجندين من دول العالم المختلفة لتضعهم على الأرض، والذين يتقاضون مبالغ أكبر من تلك التي يمكن أن يتقاضوها في بلادهم، في حين تعتمد على المتقاعدين من الدول الكبرى، كالولايات المتحدة وبريطانيا، لتسيير دفتها العسكرية، تستخدم تلك الشركات معظم الإمكانات المسلحة المتاحة للجيوش النظامية دون مواربة، من الدبابات إلى طائرات الهليكوبتر والقدرة على التحقيق مع – وتعذيب – سجناء (أشهر تلك الحوادث كانت حادثة التعذيب بسجن أبو غريب العراقي، والذي ضلعت فيه شركة أكاديمي، المعروفة سابقًا باسم “بلاك ووتر”، والتي غيّرت اسمها أكثر من مرة بعد أن لاحقتها الفضائح).

أبرز المناطق التي تتواجد فيها تلك الشركات هي الدول اللاتينية، والتي تستعين فيها العديد من شركات التعدين والبترول، وغيرها من شركات حيوية، بشركات أمن خاصة لتأمين منشآتها في ظل غياب كفاءة قوات الجيش والشرطة الحكومية لتلك الدول، على سبيل المثال، كولومبيا، حليف الولايات المتحدة بالقارة وواحدة من أهم ساحات تواجد شركات الأمن، تسمح لـ٢٥ شركة أجنبية من هذا النوع بالعمل على أراضيها، ويتم ذلك عبر مجموعة من اللاتينيين الحاملين للجنسية الأمريكية، بصفتهم “مقاولي قطاع خاص”.

معظم تلك الجهود تتم في إطار الخطة الأمريكية “كولومبيا” الموضوعة بحجة مكافحة المخدرات ومواجهة الفوضى، ويتمتع أولئك المقاولون بنفس المناعة الدبلوماسية التي يتمتع بها دبلوماسيو الولايات المتحدة، ويعيشون في كنف السفارة والقواعد الأمريكية هناك، وهو ما يعني عدم قدرة السلطات الكولومبية على محاكمتهم أو توجيه التهم لهم حال ارتبكوا أية جرائم، تستخدم الولايات المتحدة وحليفتها هؤلاء في مواجهة عصابات المخدرات والمعارضين اليساريين غالباً للنظام، كما حدث في أوائل القرن الحالي حين ساهمت بقوة ونجاح شركة “دين كورب” (DynCorp) في قمع مجموعات ثورية بالبلاد، وهي شركة ساهمت أيضاً في جهود متفرقة بالصومال وجنوب السودان وليبيريا.

الشركات الأخرى الشهيرة هي “يونِتي ريسورس جروب” Unity Resource Group  الأسترالية، ومقرها دُبي، والتي تضم كفاءات عسكرية أمريكية متقاعدة وتوظف مرتزقة من شيلي بالعراق، وقد تم التعاقد معها لتأمين الانتخابات البرلمانية في لبنان، وشركة “ديفيون إنترناشيونال” Defion Internacional، التي تجند المئات من اللاتينيين في مهمات عديدة حول العالم، ولها تمثيل رسمي في دبي والفلبين وسريلانكا والعراق، وهي معروفة بحماية المنشآت وتوفير رجال الأمن الشخصي (بودي جارد)، وشركة “أيجيس ديفِنس”  Aegis Defense  التي تحمي منشآت النفط في العراق، وتتعامل معها وزارة الدفاع الأمريكية والأمم المتحدة، وشركة “أرينِس”Erinys ، ومقرها أيضاً دبي، التي تحمي خطوط الغاز والنفط في العراق ومُنِحَت عقوداً في الكونغو لحماية مناجم الحديد ومشاريع النفط. و”أرينِس” هي واحدة من ثماني شركات تعاقدت معها الولايات المتحدة لتحل محلها في العراق حين تنسحب القوات الأمريكية بشكل رسمي، و”دين كورب” المذكورة آنفاً أيضاً واحدة منهم، “آسيا سيكيورتي جروب” Asia Security Group، التي امتلكها في السابق “هشمت قرضاي”، ابن عم الرئيس الأفغاني السابق “حامد قرضاي”، والمتمركزة في كابول، هي أيضاً شركة أمن تتعاقد معها الحكومة الأمريكية لحماية قوافل إمدادات قوات التحالف.

بالإضافة لكل تلك الشركات، تتربع “أكاديمي” على عرش شركات المرتزقة، إذ تملك واحدة من أكبر منشآت التدريب العسكري في ولاية نورث كارولاينا الأمريكية، بمساحة ٧ آلاف فدان، وتمتلك معدات جوية وعربات عسكرية خاصة بها، بالإضافة لجيش من ٢٠ ألف مقاتل، تورطت الشركة في حوادث إطلاق نيران عشوائي كثيرة في العراق، وكانت ضالعة بأحداث الفلوجة بالعراق، حين كانت معروفة باسم “بلاك ووتر”.

معظم، إن لم تكن كل، تلك الشركات، لم تكن موجودة حتى نهاية القرن العشرين، قبل صعود “جورج بوش” ووزير دفاعه “رونالد رامسفيلد”، اللذين عبَّدا الطريق لـ”بزنس المرتزقة.”

نقل المهام إلى قطاع خاص

وقف “دونالد رامسفيلد”، وزير الدفاع الأمريكي السابق، بعد يوم واحد من هجمات الحادي عشر من سبتمبر، موجهاً كلامه لقادة البنتاجون (وزارة الدفاع): “موضوعنا اليوم هو عن خصم يمثل خطراً حقيقياً لأمن الولايات المتحدة، هذا الخصم هو واحدة من أعتى منظومات التخطيط المركزي الباقية على وجه الأرض، والتي تحكم عبر خطط خمسية تُملى من أعلى، ومن عاصمة واحدة، ساعية لفرض مطالبها عبر القارات والمحيطات، ومعرقلة بوحشية التفكير الحر والأفكار الجديدة، والقدرة على الدفاع عن الولايات المتحدة.. يبدو من حديثي أن الاتحاد السوفييتي هو هذا الخصم، ولكن هذا الخصم قد رحل: خصمنا الآن أكثر دهاءً وعنداً، قد تظنون أنني أتكلم عن واحدة من الدكتاتوريات الأخيرة الباقية في العالم، ولكن هذه أيضاً ولى زمنها، ولا يمكن أن تصل قوتها لتكون خصماً لنا، الخصم الذي أتحدث عنه أقرب لنا مما تظنون، إنه بيروقراطية البنتاجون”.

بهذه الكلمات دشّن “رامسفيلد” عهد خصخصة المجال العسكري؛ المجال الوحيد الذي نجا من قبضة القطاع الخاص في القرن العشرين، وأعلن عن خططه تنحية المنظومة المركزية التي اعتمد عليها البنتاجون، وزيادة الاعتماد على الشركات، التي تصاعد الإنفاق عليها ليتضاعف منذ عام ٢٠٠١م ليصل إلى عشرات مليارات الدولارات اليوم.

على عكس العديد من المليشيات التي تعمل لصالح إيران، أو روسيا، أو الجماعات العابرة للقوميات مثل “طالبان”، و”نمور التاميل”، و”حماس”، إلخ، تفتقد المنظومة العالمية الرأسمالية التي تتربع الولايات المتحدة على عرشها لمجموعة من المتحمسين المؤمنين بها إلى هذه الدرجة التي تسمح لهم بأن يهبوا أنفسهم للدفاع عنها، وهو ما يعني حاجتها لكيانات عسكرية غير متوازية (asymmetric) تواجه بها المليشيات التي تؤرقها في أمريكا اللاتينية وأفغانستان والشرق الأوسط وأفريقيا وغيرها، والتي لا تستطيع مواجهتها بالجيوش النظامية، القدرة الوحيدة التي تملكها تلك المنظومة لتحشد بها هي القدرة المادية، وهو ما يعني أن هذه الكيانات، على العكس من المليشيات، لا تجمعها عقيدة أو ثقافة أو لغة أو وطن، ولكن يجمعها فقط الراتب والتدريب الكفء؛ أي أنها مرتزقة بالمعنى الكلاسيكي، لكن في قالب رأسمالي حديث.

قد تبدو هذه الشركات تجلياً للرأسمالية في أقبح صورها، ولكنها ربما لا تختلف كثيراً عن الجيوش القومية التي اتشحت بألوان الأعلام الوطنية، وباسم “الوطن”، و”القومية”، لتجييش وحشد جنودها في معارك غالباً ما صبت لصالح نفس العواصم التي تحرّك اليوم شركات المرتزقة بدلاً من قواتها المسلحة، كل ما هنالك أن هذه العواصم تفضل اليوم إدارة أكثر كفاءة وبرجماتية للمجال العسكري، على حساب الأرضية الأخلاقية التي استندت إليها دوماً باسم الوطن، شركات المرتزقة ليست سوى الصورة الصريحة القبيحة للمنظومة العسكرية الحديثة، التي دارت عيوبها على مدار قرنين بالأعلام والأناشيد، وأخفقت كثيراً في مواجهة قوى محلية مختلفة حول العالم، وقررت اليوم، بعيداً عن أعين النظام العالمي الرسمي، تحقيق أهدافها بشكل أكفأ ربما، وأقبح.

بينما تعلن الولايات المتحدة عن خططها للانسحاب من العراق وأفغانستان، والاكتفاء بوجود بوارجها الضخمة وقواعدها الجوية هنا وهناك، والتي لا تكلفها سوى بضع آلاف من العسكريين الذين لا يحتاجون للتواجد على الأرض وتحمّل أعباء الحروب التي يتكبدها خصومهم، تكون المهمة في الواقع قد انتقلت إلى شركات أمن/مرتزقة خاصة، ما إذا كانت مجموعة من اللاتينيين المدربين في صحاري أمريكا قادرة على حماية المنظومة التي فشلت القوات النظامية الأمريكية في حمايتها، في مواجهة أبناء الدار الذين يعرفون تفاصيل الأرض والتاريخ والثقافة، والمسلحين باسم العقيدة أو اللغة أو غيرهما، هو أمر ستكشف عنه الأحداث في أفريقيا وأمريكيا اللاتينية والشرق الأدنى، وربما بأقرب مما نظن.

 

‏http://www.wsws.org/en/articles/2005/12/merc-d28.html

‏http://www.upi.com/Business_News/Security-Industry/2005/12/29/Uranium-suspected-in-Iraq-mercs-death/UPI-54631135867732/

‏http://www.theguardian.com/uk/2007/aug/01/military.usa

Exit mobile version