الحج.. مهوى الأفئدة

{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}

كنت في مكتب رئيس القسم المختص بإحدى المؤسسات الحكومية، ودخلت امرأة في الخمسينيات من عمرها، وطلبت من رئيس القسم أن تقابل وكيل الوزارة لينهي لها معاملتها، فابتسم قائلاً: الوكيل مباشرة.. سيدتي، لا يمكن أبداً أن تلتقي مع الوكيل بشكل مباشر، أعطيني معاملتك ثم نعرضها عليه، وبعد عدة أيام يمكنك الرجوع مرة أخرى لاستلامها، فقالت له بإصرار: ولكن هذه المعاملة تأخرت كثيراً بين خفايا الأدراج ومتاهات الأوراق، فليتني أقابله لتنتهي متاهتي تلك.

فقال لها بحسم قاطع: مستحيل أي من المراجعين أصلاً أن يقابل الوكيل، فقالت ببساطة وعفوية شدت انتباه أغلب المنتظرين لتسليم أوراقهم: ولكني أقابل الله سيدي، وهو الخالق!

اعتدل المسؤول في جلسته وكأنها فاجأته بما قالت، حيث طلب منها إعادة قولها، فقالت: إني أقابل الله ملك السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق ورب المغارب، فلماذا تصعِّب عليَّ لقاء الوكيل وهو يعمل أصلاً لخدمة أمثالي، هنا اختلفت نبرة المسؤول وقال لها وهو لا يخفي إعجابه بما قالت: سيدتي، إن طلب كل مراجع لقاء الوكيل ستصير فوضى، ولن يتمكن من أداء عمله، فهو كما قلت مخلوق وإمكاناته محدودة، وأعدك في أقرب وقت أن معاملتك ستنتهي.

تفكر وتدبر

خرجت المرأة بثقة وعزة ملحوظة، ولكن كلماتها أزالت وقر سمعي، وأصبحت تتردد وتتكرر وكأن المرأة لم تغادر المكان، بضع كلمات كان لها صدى كبير في نفسي، وبعد تسليم معاملتي، أردت أن أختلي بنفسي قليلاً فعرجت إلى الشاطئ، ونظرت إلى صفحة الماء وأنا أردد في جنبات نفسي: «ولكني أقابل الله».

الحرم الآمن

استشعرت حب خالقنا وقدرته وإذنه لكل مخلوقاته أن يقابلوه في أي وقت شاؤوا؛ (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) (البقرة:186)، وزاد سبحانه من كرمه أن جعل له بيتاً يستضيفنا فيه بالملايين خصوصية لبعض الناس بعد أن استضاف الناس أجمعين على الأرض، وجعله حرماً آمناً، ونادانا نحن الضعفاء الذين لا نستطيع الدخول على مسؤول من الخلق في مكان عمله الرسمي إلا بعد المرور على أبواب داخل أبواب مغلقة، لكن الله سبحانه هو الذي يدعونا لزيارته، فيلبي من يستطيع منا حباً وكرامة وحمداً وشكراً، ويجعل الله ذلك هوى قلوبهم، وسعادة أفئدتهم؛ تحقيقاً لدعوة إبراهيم عليه السلام؛ (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) (إبراهيم:37)، أما من لا يستطيع تلبية النداء فتراه في حزن وشوق يدعو الله ألا يطول حرمانه من زيارة البيت العتيق، ومع الأيام تصبح هذه الأمنية إحدى أهم أمنيات حياته، حتى وإن كان مقصراً في عباداته الأخرى، فيا لهذه القوة التي وكأنها تجذب المسلمين إلى البيت الحرام وتجعلهم دوماً مشتاقين لزيارته.

وكأني من ذاكرتي أرى الحجيج بمئات الألوف بل بالملايين، كأن كلاً منهم في مناجاته مع خالقه سبحانه قد احتواه الله في لقاء خاص، فلا يستشعر أبداً أن هناك من ينافسه في لقائه، فالجميع يدعو وهو على يقين أن الله يسمعه، وقادر على تحقيق مطالبه التي أعد لها عدة قبل بداية رحلته، والتي لا يستطيع غيره أن يحققها، ويتكرر الدعاء ويلح المرء في الطلب، والسميع العليم يرضى منه ذلك، بل يثيبه عليه، ويستجيب له بما شاء؛ (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر:60)، وقد هيأ للحجيج حرماً آمناً مليئاً بالخيرات؛ (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ {57}) (القصص:57)، ثمرات تامة النضج لا مجرد زراعات.

البقاع الطاهرة

وتتتابع الرؤى والمشاهد في الذاكرة، فيتمثل الحجيج وهم يسيرون على أرض يقيناً سار في بقاعها محمد [، ومن قبله إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وآخرون من الأنبياء والمرسلين، فيستشعر الحجيج تمييز الله لهم، ورفعه لقدرهم، فتكون محاولاتهم أن يكونوا على خطاهم في محتوى المكان، وعلى خطاهم في فعل الخيرات، والتأسي بالرسول [ في أداء المشاعر والطاعات.

يطوف الحجيج حول البيت ويتمثل في الذاكرة طواف رسول الله “صلى الله عليه وسلم” بالبيت في فتح مكة وفي حجة الوداع، ويصلون ركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام، ويتمثل في الذاكرة صاحب المقام وهو يرفع القواعد من البيت ومعه إسماعيل عليهما السلام، ويشربون من زمزم ويسعون بين الصفا والمروة، ويتمثل في الذاكرة إسماعيل عليه السلام وهو طفل رضيع لا يجد ما يقيم أوده، وأمه تسعى بين الصفا والمروة تنشد العون، ثم رحمة الله بهما وتفجير زمزم.

السكينة والطمأنينة

تحركت صفحة المياه بلطف لتنتقل ذاكرتي إلى ليلة المبيت بمزدلفة، فقد كانت ليلة عجيبة حقاً، فبعد أن أفضنا من عرفات وآوينا إلى مزدلفة، صلينا المغرب والعشاء جمعاً، بعد أن صلينا الظهر والعصر جمعاً بعرفات، وهناك بعد الصلاة، أرى الحجيج وقد تغشاهم نعاس من الله وحده، فقد كانت أهنأ ليلة استشعرت فيها فيوض الرحمن على الحجيج، وشعور الطمأنينة والهدوء النفسي والسكينة ونحن ننام على الأرصفة وعلى الأرض مباشرة، ولن أكون مبالغة إذا قلت: إنها أروع ساعات في العمر، نستشعر فيها قول الخالق: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ) (الأنفال:11)، لقد كان حقاً أمناً وطمأنينة وراحة وسكينة.

الجمرات والشيطان

وتحرك البحر وجاءت موجة لتحرك شريط ذاكرتي إلى حيث رمي الجمرات، وكل منا لديه عدة حصوات يلقي بها واحدة بعد الأخرى في الجمرة الصغرى والوسطى والكبرى، وفي هذا المكان الذي يوحي إلى كل حاج مقاومته للشيطان، تذكرت قصة روتها لي إحدى النساء، وقد عبرت قصتها بشكل مجسد عن معاناة البشر من مناجاة ووسوسة الشيطان، وأن هناك لحظة حاسمة نمر بها؛ إما أن نتحرر منه أو نجعل له علينا سلطاناً في لحظة ضعف، فقد قالت:

هاجرنا إلى أحد البلاد الأجنبية للهجرة والإقامة الدائمة، فقدَّم زوجي استقالته من عمله في بلدنا وتوكلنا على الله، وكنت منذ اللحظة الأولى التي دخلنا فيها هذا البلد وأنا واثقة أن ربنا رحمته واسعة، وهو خير حافظاً وأرحم الراحمين.

مضت ثمانية أشهر ولم يُقبل زوجي في أي عمل يخص مهنته، وقد أشرف المبلغ الذي جمعناه على الانتهاء، وأصبح الأمر عسيراً وصعباً ومخيفاً، فقررنا أنا وزوجي زيادة الاستغفار والدعاء والأخذ بالأسباب والتقديم في كل مكان مناسب، والثقة فيما عند الله.

وسوسة ومناجاة شيطان

تخفيفاً على زوجي، ألححت عليه أن نذهب للنزهة مع الأبناء؛ لنثبت لأنفسنا أننا نثق بما عند الله تعالى، اقتنع زوجي بعد لأي وذهبنا، وهناك وأنا ألاعب أبنائي، لا أنسى كيف كان يناجيني الشيطان عن يميني ويساري يريد تخويفي فيقول لي: بماذا أنت واثقة هكذا؟ غداً ربما مددت يدك للناس ولن يحدث أبداً أن يأتيكم الفرج.. وأنا ألتفت برأسي إلى الناحية الأخرى وأقول لنفسي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هو يريد أن يحزنني ويخوفني ويفقدني ثقتي في رب العالمين، وأنا أريد أن أثبّت إيماني بحسن توكلي على خالقي، وأتذكر قوله تعالى: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ {10}) (المجادلة)، ثم أعود لملاطفة أبنائي وكأن شيئاً لم يكن.

سبحان الله، في طريق العودة، وحتى قبل أن نعود إلى البيت، يتصل أحدهم بزوجي وهو في السيارة يطلبه للعمل، فهو يحتاج لمثل خبرته، وهكذا أفرح الله تعالى قلوبنا بـ«كن فيكون»، في لحظة تغير كل شيء، ومنَّ الله علينا بفضله ورحمته بأهون سبب وأيسر سبيل، زاد يقيني أن من يتوكل على الله فهو حسبه.

لقد توقفت كثيراً.. إن هذه الأخت لم تسمح للشيطان أن يجعلها تحزن، وكيف أن المرء يستطيع بإيمانه أن يتغلب على مناجاة تريد أن تجعل حياته نكداً وشقاءً.

بيوت الرحمن في كل مكان

ترقرقت صفحة المياه، لتسجل ذاكرتي صورة لبيت الله الحرام والحجيج في طواف الإفاضة، ثم العودة إلى الديار، حيث هناك أيضاً بيوت للرحمن الرحيم، ودعوات متكررة خمس مرات في اليوم والليلة: «حي على الصلاة.. حي على الفلاح»، دعوات  لزيارة هذه البيوت ومناجاة الخالق مالك الملك جل وعلا، فدعوت للمرأة التي قالت: إنها تقابل الله سبحانه، فقد شحذت ذاكرتي بقولها، وجعلتني أتذكر أجمل أيام عمري في لقاء الله سبحانه في بيته الحرام مهوى الأفئدة.

Exit mobile version