“الزمن عنصر من أهم عناصر حل المشكلات المستعصية”.. مقولة معروفة، صداها على أرض الواقع بالغ الجودة، فالمشكلات البالغة التعقيد يبقى الزمان داء ناجعاً وناجحاً لها، وكأس الحل الذي لا يقبل (طرفا الأزمات) احتساؤه في أول درجات الأزمة، بفعل الزمان، وعوامل الت
“الزمن عنصر من أهم عناصر حل المشكلات المستعصية”.. مقولة معروفة، صداها على أرض الواقع بالغ الجودة، فالمشكلات البالغة التعقيد يبقى الزمان داء ناجعاً وناجحاً لها، وكأس الحل الذي لا يقبل (طرفا الأزمات) احتساؤه في أول درجات الأزمة، بفعل الزمان، وعوامل التفاقم، وشيء من النسيان.. يقبلان تذوقه بعد حين.
لكننا إزاء الأزمة المصرية الحالية نجد المقولة الزمانية لها رونق مختلف.. فالرئيس الحاكم اليوم بقوة الدبابة ينتظر حسم عنصر الزمن للأمر لصالحه بفارغ الصبر، والحسم لديه لا يساوي إلا تجرع الطرف الآخر (الإخوان) كأس سلبيات المصالحة كاملاً، يقبلون بانتزاع سلطات أول رئيس منتخب في عمر مصر من قبل العسكر، بل يقبلون بحكم العسكر بدلاً منهم، ويأخذون بعضاً من المال من خزينة الدولة المنهكة، أو من خزائن الحلفاء العرب، والمال لدى “السيسي” ترضية كافية حتى لو كان في مجال التعويض عن أرواح انتزعت من أجساد أصحابها المعتصمين السلميين، حتى لو كان عدد من انتزعت أرواحهم آلافاً، فيهم الرضيع، والمرأة، والشيخ الكبير، والسيدة المسنة، حتى لو كانت طريقة القتل وحيثياتها لم يسبق لها مثيل في تاريخ مصر الحديث، وقيل: في تاريخ العالم كله بخاصة في حق معتصمين عُزل.
المال لدى النظام العسكري الجاثم فوق صدر مصر الآن هو الحل لإشكالية القصاص لأرواح الشهداء، والدية التي هي في الشريعة الإسلامية تدفع تعويضاً عن القتل الخطأ، صارت في عرف العسكر تعويضاً عن القتل بوجه عام، وعلام التعجب؟! فإن لديهم من مفتين السلطان وعلماء السوء عدداً لا بأس به، وقد قال أكثر من واحد من هؤلاء: إن قتل المعتصم والمتظاهر السلمي المدافع عن الاختيار الديمقراطي، ومفردات الحكم التي أقرها الغرب، وتم تنفيذها بدقة عقب محاولة الثورة في 25 يناير 2011م، ولكن الغرب، الذي يكيل لنفسه بمكيال ولشعوبنا العربية المتطلعة إلى الحرية ومن ثم النهضة والتقدم بمكاييل أخرى، قبل أن تنتهك الحرية في مصر، وإن تم العصف بالديمقراطية، وإن تكررت مأساة الجزائر في بداية التسعينيات، تلك التي أودت بعشرات الآلاف من الأرواح، لما جاء صندوق الانتخابات بالإسلاميين فعصف الجيش بها وبهم.
ولأن العسكر في مصر جاء قائدهم اليوم من فرع المخابرات الحربية، ولأنهم عزَّ عليهم أن تذهب البقرة التي تدر الخيرات لهم إلى مستحقيها الأصليين، الشرفاء من أبناء الشعب المصري، وهم يرون مصر بلداً جديراً باحترام مقدراته والحفاظ عليها، وأعني بالشرفاء كل المخلصين من الثوار بمن فيهم الإخوان المسلمون، ولأن العسكر يدركون أن مآربهم اليوم صارت مفضوحة، وأن التاريخ لا يعيد نفسه، وإن أرادوا هذا، فإن مفردات تجربة “جمال عبدالناصر” في عام 1954م لا يملك أحد إعادتها، وإن شعباً رضخ يومها لطوفان الاقتلاع وانتزاع طرف منه تحت ستار العمالة والتخوين، من الصعب أن يقبل اليوم بتكرار نفس السيناريو، بخاصة أن السيناريو الأول أفضى إلى مأساة، ما تزال مصر تتجرعها بل الأمة العربية في صورة الهزيمة القاسية التي منيت بها في حرب عام 1967م، ولكن قائد العسكر يهرول خلف أي معطى يهبه الاستمرار على كرسيه، ومروراً بالسيف والذهب، وصولاً إلى الوعود المزيفة في صورة مبادرة النائب السابق في مجلس الشعب محمد العمدة، وغيرها، باعتبار فترة ولاية “السيسي” فترة انتقالية لمدة أربع سنوات، مع عدم إعطاء ضمانة على الإطلاق بعدم تجدد ترشيحه، بل تعديل الدستور، وهو أمر متوقع ليحكم مدى الحياة، وربما لتوريث السلطة لأبنائه.
إننا أمام محاولة مفضوحة للتلاعب بالواقع، وفرض النفس على شعب مصر تحت أي مسمى، وعرض أوراق لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت به، أملاً في انهيار مناعة ومقاومة جماعة الإخوان والشرفاء، وتلاعباً بقدرات النفس البشرية التي يطول عهد الكفاح والنضال بها شئنا أم أبينا، لكن العسكر تناسوا أن الأمر لما يخص الدماء فإن من الصعب إن لم يكن المستحيل التغافل عنه، ولما يتمادى الأمر فيصل لتقطيع الأوصال، وتمزيق الأجزاء، وبعثرة الأشلاء فأي نفس بشرية تقبل بعدها المال؟
وأمر الشهداء والمصابين لا يخص القرار العام لجماعة الإخوان المسلمين، وتلك نقطة بالغة الأهمية هنا، فربما جنحت الجماعة لخيار المصالحة لرأب الصدع وإنقاذ للدولة، ولكن أهالي الشهداء والمصابين لا سبيل إلى إقناعهم بالأمر بأي حال من الأحوال، بل إن ما يزيد من صعوبة الأمر على “السيسي” أنهم، بوضوح، سيشقون عصا الطاعة في الجماعة إن هي قبلت برأي طرف منها يرى المصالحة باباً لإنهاء حالة الانهيار المقبلة عليها الدولة، إن لم تكن قد وصلت بالفعل إليها.
إن العسكر الذين قبلوا بالغباء في سرقة السلطة في مصر لا يريدون أن يفهموا أن الشعب المصري لن يقبل منهم التظاهر بالاحتكام إلى العقل اليوم كي يظلوا فيها، وبخاصة من دفعوا الثمن غالياً من أبناء الشعب المصري.. أهالي المعتقلين والمصابين بخاصة من جماعة الإخوان المسلمين.