كل القيم والمثل الفاضلة البنَّاءة تناولها الأدبُ الأندلسي منظومُه ومنثورُه
كل القيم والمثل الفاضلة البنَّاءة تناولها الأدبُ الأندلسي منظومُه ومنثورُه
لو جُمِع شعرُ الوصف وحده دون النثر لأهل الأندلس لكان شيئاً كبيراً
ما أكثر شعراء الأندلس الذين ألقوا الشعر ارتجالاً.. ألا يعد هذا من عالميته وقممه العالية؟
كل معاني الحياة الكريمة وقيمها الفاضلة ومُثلها البنَّاءة تناولها الأدبُ الأندلسي منظومُه ومنثورُه وأغناها، واحدة من أعلى مواصفات الأدب العالمي، بذلك يكون هذا التوجه أخرج أغراض الأدب بجناحيه من مَخْنَقها ومَحْبَسها وقمقمها البائس البالي العتيق، إلى آفاق الحياة الحقة النبيلة تليق بالإنسانية المتحضرة الفاضلة، تكون المثال والقدوة والنموذج الفارع البارع النافع، قلما تجده في غيره من آداب الأمم.
نجد هذه المواصفات متوافرة في أدب العلماء شعراً ونثراً، حتى الكثير من تلك التي تخص المجتمعَ الأندلسي وبيئتَه وطبيعةَ بلده، يكفي التعرف على كتابات نماذج معروفة مثل: ابن الفَرَضِي في بعض ما بقي من نِتاجه الأدبي وغيره،
ابن حزم الأندلسي الذي تربى في بيت والده الوزير توافر في منزل أسرته العديد من النساء المربيات والعاملات والمرتادات، قبل زواجه لو رغب بالعَلاقة المحرمة غير الشرعية – بأي مقدار منخفض – ربما ما عَدِمَ إمكانية توافر ذلك، بالتزامه حَماه الله تعالى من كل ذلك، جرى ذلك كله وقد أحب إحداهن حباً كبيراً، ذلك ما صرح به في كتابه المرموق: «طوق الحمامة وظل الغمامة في الأُلْفة والأُلاَّف»(في الحُبِّ والمُحِبّين)، الذي يحمل صفةَ الأدبِ العالمي والتجربةَ الأدبيةَ، النادرُ تواجدُها في الآداب العالمية الأخرى كافة، نادر في موضوعهن كتبه أيام إقامته في مدينة شَاطِبة Jativa، نحو عام 418هـ/ 1027م، والأخرى النادرة الباهرة السائرة وتحليلاته وشعره الناضج الفهم في المعاني النفسية بكل دقائقها.
مواقف عملية
وابن الخطيب في ثمرات أعماله الحياتية وأبعاد مواقفه العملية والقولية ونِتاجاته الأدبية شعراً ونثراً، مما جاء وَصف ابن الخطيب لغَرناطة(1):
بَلَدٌ يحفُّ به الرياضُ كأنه
وَجْهٌ جميلٌ والرياضُ عِذارُهُ
وكأنما واديهِ مِعْصَمُ غَادَةٍ
ومن الجُسُورِ المُحْكَماتِ سِوارُهُ
لو جُمِع شعرُ الوصف – وحده دون النثر – لأهل الأندلس لكان شيئاً كبيراً، المتقدم في وصف الطبيعة بالأندلس صنوبري الأندلس(2): ابن خفاجة الأندلسي (533هـ/ 1138م)، من مدينة شُقْر (شُقَر)Jucar على نهر وادي شُقَر بين مدينتي بَلَنْسِيَهْ Valencia وشَاطِبَةJativa لهذه أقرب شرقي الأندلس(3): «يغلب على شعره وصف الرياض ومناظر الطبيعة»(4) الذي يُعْتَبَر: «أَوْحَدَ الناس في وصف الأنهار والأزهار والرياض والحياض والرياحين والبساتين»(5)، يقول واصفاً الأندلسَ(6):
إنَّ للجَنّةِ بالأندلسِ
مُجْتَلَى حُسْنٍ ورَيَّـا نـَفَـسِ
فسَنا صُبْحَتِها من شَنَبٍ
ودُجَى لـيـلـتِها من لَـعَسِ
وإذا ما هَبّتِ الريحُ صَبَاً
صِحْتُ وا شَوْقِي إلى الأندلسِ
يَصف ابن اللبّانة مدينة بجزيرة مَيورْقةMallorca الأندلسية (7):
بلدٌ أعارتْهُ الحمامةُ طوقَها
وكَساهُ حُلّةَ ريشه الطاووسُ
فكأنما الأنهارُ فيه مُدامَةٌ
وكأنَّ ساحاتِ الدّيَارِ كُؤوسُ
نجد كذلك وَصْفاً رائقاً لرَوْضٍ أندلسي لأحد علماء الحديث والأدب: أبو الأَصْبَغ عيسى بن عبدالملك بن قُزْمان(8) (الجَدّ الأعلى لأبي بكر بن قُزْمان الزّجَّال المشهور، اعتُبِرَ إمامَ الزَّجَل)(9)، أَنْشَدَ له هذا الشِّعْرَ حبيبٌ الأندلسي في كتابه: «البديع في وصف الربيع»:
لا شيءَ أحسنُ منظراً إن زُرْتَهُ
أو مَخْبَراً من حسن روضٍ ناضرِ
إنْ جِئْتَهُ أعطاكَ أجملَ منظرٍ
أو غِبْتَ زارَكَ في النَّسيمِ الخاطرِ
ارتجال الشعر
ما أكثر الشعراء من كانوا يقولون الشعر على البديهة ارتجالاً، أليس هذا مما يمكن أن يعد من عالميته وقممه العالية: انظروا هذا العالم أبو بكر بن القُوطِيّة(10) توجه يوماً أبو بكر يحيى بنُ هُذَيْل، إلى ضيعته بسفح جبل قُرْطُبة لَقِيَ ابنَ القُوطِيّة خارجاً من ضَيْعَةٍ له هناك، قال له ابنُ هُذَيْل على البديهة:
مِنْ أينَ أقبلتَ يا مَنْ لا شَبِيهَ له
ومَنْ هو الشمسُ والدنيا له فَلَكُ؟
فتَبسَّم ابنُ القُوطِيّة وأجابه على البديهة بسرعة:
مِنْ منزلٍ يَعْجِبُ النُسّاكُ خَلْوتَهُ
وفيه سِتْرٌ على الفُتّاكِ إن فَتَكُوا
فما تمالك ابنُ هذيل أن قَبّلَ يَدَهُ؛ إذ كان ابنُ القُوطِيّة شيخَه.
عواطف رقيقة
ابن القوطية شاعر صحيح العبارة جيد المعاني دقيق التعبير، إلاّ أنه زَهَدَ فيه، له شعر في الوصف والعواطف الرقيقة، له في الربيع(11):
ضَحِكَ الثَّرى وبَدا لك اسْتبشارُهُ
فاخضرَّ شاربُهُ وطَرَّ عِذارُهُ
ورَبَّتْ حدائقُهُ وآزَرَ نبتُهُ
وتعطَّرتْ أنوارُهُ وثِمارُهُ
واهتزَّ قَدُّ الغُصنِ لَمّا أن كَسَا
وَرَقاً كديباجٍ يَروقُ إزارُهُ
واهتزَّ ذابِلُ كلِّ ماءِِ قرارةٍ
لَمّا أتى مُتَطَلِّعاً آذارُهُ
وتَعمَّمتْ صُلْعُ الرُّبَى بنَباتِهِ
وتَرَنّمتْ من عُجمةٍ أطيارُهُ
يقول ابن القوطية في وصف أنواعٍ من الورد هذه الأبيات الغزلية الجميلة(12):
ضُحَىً أناخوا بِوادِي الطلْحِ عيسَهُمُ
فأوردوها عِشاءً أيَّ إيرادِ
أَكْرِمْ به وادياً حَلَّ الحبيبُ بهِ
ما بين رَندٍ وخابورٍ وفَرْصادِ
يا وادياً سار عنه الركبُ مُرْتحِلاً
بالله قُلْ أين سار الركبُ يا وادي
أبِالغَضا نَزَلوا أم للوى عَدَلُوا
أم عنك قد رَحلوا خُلْفاً لميعادي
بانوا وقد أورثوا جِسْمِي الضَّنَا وكأنْ
كان النَّوَى لهمُ أو لِي بمرصادِ
أما الغزل بعفته الظاهرة، فمعدنه العالم الإسلامي وحده والأندلس متقدم فيه، نجد ذلك بادياً معبراً في أدبهم شعراً ونثراً، يشيرون إليه بأجمل وأرق وأعف العبارات العالية المعاني السامية المستوى الناضجة الفهم، تتمني أن تمتلكها الآداب العلمية الرفيعة لتزهو بها، مثل الذي قاله الشيخ أبو الحسن ابن فرحون:
رأيت قمر السماء فأذكرتني
لياليَ وَصلها بالرقمتين
كلانا ناظرٌ قمراً ولكن
رأيتُ بعينها ورأت بعيني
نظم بديع
من بديع نظم القاضي العلامة الفقيه أبو بكر بن العربي الإشبيلي قوله:
أَتَتْني تُؤَنِّبُنِي بالبُكا
فأهلاً بها وبتأنيبها
تقولُ وفي نفسِها حَسْرةٌ
أتبكي بعينٍ تراني بها?
فقلتُ إذا استحسنتْ غيرَكم
أمرتُ جُفُني بتعذيبها
أبو عبدالله محمد بن عبدالسلام بن ثَعْلَبة الخُشَنِي القُرْطُبي (26 رمضان 286هـ = 5/10/899م)، من أهل كُورة جَيّان Jaen انتقل إلى قرطبة، من ذرية أبي ثعلبة الخُشَنِي صاحب رسول الله [، كان زاهداً وَرِعاً عالماً نحوياً شاعراً أديباً فقيهاً وحافظاً للحديث فصيحاً جَزْلَ المنطق أَبِيّ النَّفْس صارماً أَنُوفاً منقبضاً عن السلطان، أراده الأميرُ محمد بن عبدالرحمن الأوسط (273هـ/ 886م) على القضاء على كورة جَيّان وألحوا عليه، فأبى وقال: «أَبَيْتُ أَبَيْتُ كما أَبَتْ السماواتُ والأرضُ إبايَةَ إشفاقٍ لا إبايَةَ عصيانٍ لي ولد وأنا أحبه»، فأعفاه الأمير وتركه لشأنه، كان ثقة مأموناً، أكرمه الأمير محمد بعدله المعروف وأنصفه، كان يدعو له وتلامذتُه في كل درس وحلقة يعقدها، كان الخُشَنِي شاعراً متمكناً يرتجل الشعر(13)، مما أنشد لنفسه(14)، بعد عودته من رحلته إلى المشرق التي أنفق فيها خمسةً وعشرين عاماً!:
كأن لم يكن بَيْنٌ ولم تكُ فُرْقةٌ
إذا كان مِنْ بَعْدِ الفراقِ تلاقِ
كأن لم تُؤرَّقْ بالعراقين مُقَلَتي
ولم تَمْرِ كفُّ الشوق مآءَ مآقي
ولم أزُرْ الأعرابَ في خَبْتِ أرضهم
بــــــذات اللِّوى من رامةٍ وبِراقِ
ولم أصْطَبِحْ بالبيدِ من قَهْوَةِ النَّوى
بكأسٍ سقانيها الفراقُ دِهاقِ
بَلى وكأن الموت قد زار مضجعي
فحوَّلَ مني النَّفْسَ بين تَرَاقِ
أخي إنما الدنيا محلةُ فُرْقَةٍ
ودارُ غُرورٍ آذَنَتْ بفراقِ
تَزَوّدْ أخي مِنْ قبلِ أن تسكن الثرى
وتلتفَّ ساقٌ للنشور بساقِ
روائع عالمية
أما المعتمَد من أكبر شعراء الأندلس لوقته له في كل أفانينه روائع عالمية أقر بذلك بعض المشتشرقين الإسبان ممن له اشتغال في هذه الموضوعات، كل أسرته دون استثناء شعراء، حين كان في محبسه سأل خباءً يلزمه لما لم تفر قال:
هم أوقدوا بين جنبيك ناراً
أَطالوا بها في حشاك استعارا
أما يخجل المجد أن يرحلوك
ولم يُصحبوك خباءً معارا
فقد قنَّعوا المجد إن كان ذاك
وحاشاهمُ منك خزياً وعاراً
يقلُّ لعينيك أن يجعلوا
سوادَ العيون عليكم شعاراً
الهوامش
(1) الإحاطة في أخبار غَرْناطَة، 1/115.
(2) نفح، 1/170، 210، 677، 3/488، الذخيرة، 3/465، تاريخ الأدب، 5/219 – 220.
(3) الروض المِعْطار في خبر الأقطار، محمد بن عبدالمنعم الحِمْيَري، ص 349 – 350.
(4) الذخيرة، 3/401 – 488، بغية، ص 202، وفيات الأعيان،1/56 – 57، الأعلام، 1/57.
(5) نفح الطيب، 1/536، 681 وبعدها.
(6) الذخيرة، 3/401 – 465 – 488، نفح الطيب، 1/170، 210، 4/20، الشَّنَب: جمال الثغر وصفاء الأسنان، شنب الثَّغْر: رَقَّتْ أسنانه وابيضت، لَعِسَتِ الشَّفَةُ يَلْعَسُ لَعْساً: اسود باطنها، اللعس: سوادٌ مُسْتَحْسَن في باطن الـشَّـفَـة، لَعْساء جمع لُعْسٌ: رَيِّ ضارب للسواد.
(7) نفح لطيب، 1/169.
(8) يبدو أن هذا اسم أو لقب يدل على نَصرانية أهله مما لم تتوافر معلومات عنهم.
(9) المغرب، 1/210، 383، 387. جذوة، 266 (رقم: 682)، بغية الملتمس، رقم: 1150.
(10) التاريخ الأندلسي(*)، ص 166 – 168.
(11) نفح الطيب، 4/25.
(12) معجم الأدباء، ياقوت الحموي، 6/2594.
(13) المقتبس، 2 /2/255 – 256.
(14) ترجمة الخشني: تاريخ علماء الأندلس، ص 23 – 25، جذوة المقتبس، ص 61 – 63، المقتبس، 2/2/250 – 261، المغرب، 2/54، نفح الطيب، 2/236، تذكرة الحفاظ، ص 649، تاريخ الأدب العربي، 4/147-148، الأعلام، 6/205، نسبت الأبيات إلى القاضي بن أبي عيسى، التالية ترجمته: نفح الطيب، 2/13 (قارن: 3/557).