السيرة النبوية.. وحل المشكلات العالمية (4)

حين يستقر الإسلام في نفوس مجتمعه يبدأ باتخاذ الإجراءات المتممة للارتقاء، وتحل المشكلات القائمة والقادمة

حين يستقر الإسلام في نفوس مجتمعه يبدأ باتخاذ الإجراءات المتممة للارتقاء، وتحل المشكلات القائمة والقادمة، أينما وجدت وكيفما كانت، سيما وهو يرتقي بالحياة الإنسانية المتجددة المتوحدة المتحدة. يتم ذلك حين يكون الإسلام واقعاً في تمكنه وامتلاكه أَزِمّة الحياة وتوجيهها، حاكماً قائداً سائداً، له الكلمة العليا، تلك سُنة الله الجارية دواماً في خلقه والكون والحياة والإنسان، لا بد من أداء شروطها لفهم سنة الله تعالى السائرة السائدة النافذة في تصاريف الحياة: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {55}) (النور). يواجه الإسلامُ كُلَّ مشكلة مهما كانت، يحلها بسهولة وسلاسة وانسجام، فلم يواجه العالمُ الإسلامي أي مشكلة إلا وحلها بلا رجعة، ولا نزلت أي كارثة إلا وعالجها، ولا أزمة إلا وتغلب عليها، ما دام بالإسلام ملتحماً، مرجعيةً وحيدة فريدة، كيف لا والعالم اليومَ من تيسر له التعرف على الإسلام يستعير منه ويلجأ إليه مستعيناً به بأخذ ما يحتاجه منه. الهجرة النبوية الشريفة – مثالاً معتمَداً واضحاً – واجهت مشكلات قاصمة، منذ بدايتها وعند الاستقرار في المدينة المنورة، لكن الإسلام – برعاية الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) – قَدَّم حلها بسهولة وسلاسة وانسجام: المؤاخاة مثلاً بارعاً، لكن ذلك كان بالمنهج والقيادة ونوعية الأتباع وحسن البناء وعمق الولاء، ولولا ذلك ما قام للإسلام لواء، الثابت والمتطور يعطي المسائل الثابتة تشريعات ثابتة لا تتغير؛ لأنها تواجه أموراً لا تتغير في حياة البشر، ويعطي المسائل المتطورة إطاراً عاماً ثابتاً ويدع للأجيال المتعاقبة – كل حسب نضجه وتطوره وصورة مجتمعه – أن يملأ الإطار الثابت بالتشريع المتطور، مِنْ ثَـــمَّ تكون الشريعة ثابتة والفقه دائم النمو، لمواجهة حاجات الناس كما قال الخليفة عمر بن عبدالعزيز (يرحمه الله تعالى): “يَجِدّ للناس من الأقضية بقَدْرِ ما يَجِدّ لهم من القضايا”( ). الإسلام بتشريعاته الربانية الوضيئة الفريدة حَرّر الإنسانَ من العُقَد وغرس فيه حب الخير والفضيلة والترقي المتنوع، ابتداءً من الأخلاق بثوابتها وشمولها وعمقها.. فلأول مرة تعرف الإنسانية هذا اللون والمستوى والثبات الخلقي، حتى إنه طهر القلب والفكر والنوايا من كل سوء وهبوط، وملأه بالرضا المتنوع، حين يُقْبِل عليه بكل مكوناته ليأخذ بكافة تعاليمه! فكيف وهذه كلها تقود المسلم وتفضي به للخير العميم وتكسبه محبةَ الله تعالى، أعلى ما يبتغيه المسلم، كل ذلك من أجل سعادة الإنسان في الدارين. الإسلام ليس بحاجة إلينا بل نحن بحاجة إليه، وهو يخاطب كل عصر وكل جيل مثلما عصرنا الحاضر وجيله، كما بقيةَ الأجيال، به ينجو الإنسان من كل مشكلاته، ويجنبه أزماته، ويخرجه من كوارثه، قبل أن تتراكم بأثقالها متواليةً عليه.. انظروا كيف عولجت أحداث “عام الرمادة”، السنة الثامنة عشرة للهجرة النبوية الشريفة، لدرجة أن الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله تعالى عنه) حَرَّم على نفسه وأقسم ألا يذوق السمن واللحم واللبن حتى يذوقها كُلُّ الناس، بذلك ضَعُفَ جسمُه وشَحَبَ وجهُه، واسودّ لونُه وكان أبيضَ( )، فأغاثهم الله تعالى. ذلك لا يتم إلا بقيام الحياة على شريعة، وهو ما نرجو أن يتحقق في هذه الأيام بغد غياب مُعْتِم لشرع الله تعالى، لعل هذا – كما يبدو واضحاً – أن يتم في يوم يقدره الله تعالى ليَظْهر ويعم هذه الأرض، مما يكون قد بدت تباشيره مفاجِأة لكثير ممن ظن أن أمر الإسلام قد انتهى( )، بعد تحييده حتى عن حياة أهله: (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ {21}) (يوسف)، و(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ {8} هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {9}) (الصف). لكن ما زال الطريق أمام الدعوة طويلاً رغم ما مضى على حركة الدعوة الإسلامية الحديثة ويقظتها المباركة قُرابةَ القرن، ذلك لأسباب تكمن بعضها في أداء الصحوة نفسها والقيام عليها، مثلما فيما حولها من أجواءٍ قاسيةٍ أشدَّ القسوة وأنكاها وأفتكَها، لكن هنا لابد أن يكون مفهوماً مقدماً ومبيناً في المسيرة الإسلامية بمعرفة سبيل المجرمين مثلما عليه أن يعرف سبيل المؤمنين، يجب النظر في ذلك منذ مبعث النبوة الكريمة ونزول الوحي الإلهي بالقرآن الكريم، وتلقيه من قبل الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) وقيامِه من أجل حَمْلِ أمانتها والدعوة إليها ومواجهة تَبِعاتها، بكل أثقالها وتضحياتها.. يقود هذا مؤكداً بوضوح تام ملزِم إلى معرفة هذه السيرة النبوية معرفةَ اهتداءٍ واقتداءٍ، لتتبين سُنة الله في الدعوات والدعوة الإسلامية والسيرة النبوية وتبيُّن سُنة الله فيها.. كما لا بد من القول: إن ذلك كان واضحاً في اليقظة الإسلامية الحاضرة منذ اليوم الأول من عمرها الميمون إلى حد كبير، ذلك ما أدركه الإمام حسن البنا يرحمه الله ووضحه مؤكداً لأتباعه في توضيح كامل حين الحديث عن: “العقبات في طريقنا”، بقوله: “أُحِبّ أن أصارحكم أن دعوتكم مازالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميَها وأهدافها ستلقى منهم خُصومة شديدة وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم كثيراً من المشقات وسيعترضكم كثير من العقبات، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات، أما الآن فمازلتم مجهولين، ومازلتم تمهدون للدعوة وتستعدون لما تتطلبه من كفاح وجهاد، سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم، وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام وينكر عليكم جهادكم في سبيله، وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان، وسيقف في وجهكم كل الحكومات على السواء، وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم وأن تضع العراقيل في طريقكم”( ).. ذلك ما رأينا وسمعنا غير قليل عن نكبات عانيناها من أبناء الجلدة العقوق. لكن للأسف نجد الحركة الإسلامية اخْتُرِمَتْ واخْتُرِقَتْ بمستجدات أنهكتها وشغلتها وعوقتها، بل جعلتها أحياناً متشرذمة مشتتة الشمل مرهَقة الأفق مثقلة الخطوات، إلى جانب ما يحيطها من مواجهات عاتية مجهزة بأفانين المؤن والمُكْنات والأدوات والوسائل المتجددة المتقدمة المستبقة، لا يرقبون في المؤمنين إلاً ولا ذمة، وإن تنوعت أعلامُها وإعلامُها، خالية من أي قيم ادعتها وتزيت بها مما لا هَمَّ لها إلا تدمير هذه الدعوة الكريمة بكل سبيل، أمر يدعو إلى معرفة القائمين بأمر الدعوة وفهم سبيل المجرمين مثل فهم سبيل المؤمنين، إن لم يكن أكثر وهو نفسه حماية لسبيل المؤمنين، من أسف شديد – لأسباب يجري بحثها – إن أرادت قطف الثمار قبل النضوج، وربما بعض التعجل الذي فتح الباب لإيواء بعض المتجرين والأعداء – لم يجر التنبه لهم – اختراقاً إلى مواقعها أو غير الناضجين (من مثل عديد..) وربما المتسلقين أحياناً، تقطعت بها الطرق فلم يتوافر التوافق والاتحاد والتوحد، بل أن يكونوا متعادين معتركين متواجهين، فكيف ومتى يمكن أن يكونوا جسداً واحداً، ذلك يقود إلى القول: إنه لا بد من إعادة النظر واعتبار الحالات وأسبابها وكل ما يجد منها متقدمين ومبادرين ومستبقين. كنا نتمنى أن يكون من بلداننا أحد يُحَكّم كتابَ الله ويأخذ بمنهجه في كل شؤون الحياة ويعمل لأجله، حتى لو كان من الجدد الذين كانوا على الشاطئ الآخَر، كما جرى فيما مضى (مليبار وعروة وعثمان).. بل الأمر الأعجب أن العاملين للإسلام يلقون من المعوقات في بلدانهم أكثر مما يلقونه في بعض البلدان غير الإسلامية أو حتى المناوئة له، بل إن من بلداننا من يحارب الإسلام، ليس من طرف خفي بل من جلي ينكل بالقائمين على دعوته، وصل إلى السجن والتعذيب والتمثيل لسنوات، لَحِقَ ذلك بكل الأعمار وحتى النساء بل والإعدام والقتل الفردي والجماعي علناً وبكل الوسائل المتاحة بلا أدنى مبالاة، بل بالادعاء والمبررات المزورة لعدائه للإسلام ابتداء وانتهاءً.. أمور تم بعضها شعبياً وليس حكومياً فحسب! فما المَخرج من هذه المشكلة؟ وكيف يمكن معالجتها؟ كل ذلك وغيره بحاجة إلى معالجة، فهل من الممكن أن نركز على البلدان غير الإسلامية لعل الله تعالى أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده، وتقام هناك دولة الإسلام كما حدث في التاريخ؟ لعله يحدث اليوم، من هنا فإن ما أتمه الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) بمنهج الله تعالى في تلك الفترة الوجيزة يعتبر من المعجزات التي لابد أن تتفحص وتجري دراستها، لكن لابد من مخرج للنجاة من هذا المأزق الخانق، هذا بعض جوانب النصرة للرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، إني أرى أن النصرة للرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) تكون بثقلها في داخل البلدان الإسلامية دون إهمال لغيرها، ولابد من معرفة الطريق لحل المشكلة الكبرى لتحل بعده جميع العقد مهما كانت.

 

الهوامش:

 (1) جاهلية القرن العشرين، محمد قطب، ص 228. (2) نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي، ص 52 – 53. أخبار عمر، ص 142 – 155. البداية والنهاية، 7/202 – 207. (3) واقعنا المعاصر، محمد قطب، ص 364 وبعدها. (4) مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، ص 162.

(*) أستاذ السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي والأندلسي وحضارته

 aa.elhajji@hotmail.com

 Twitter: @aaelhajji

 

 

Exit mobile version