«الكتاب الأسود» الذي أثار جدلاً في تونس

 

لم يثر كتاب صدر في تونس جدلاً بين النخب كما هي حال كتاب الرئيس التونسي «محمد منصف المرزوقي»، «الكتاب الأسود.. منظومة الدعاية تحت حكم بن علي»، الذي صدر في وقت مفصلي من تاريخ تونس، يعتقد كثيرون أنه تأخر كثيراً، لكنه أفضل من أن لا يصدر.

 كشف الكتاب عن أسماء إعلاميين داخل تونس وخارجها، وكذلك كتَّاباً عملوا بأوامر المخلوع «بن علي» وكانوا جزءاً من منظومته الإعلامية، وساهموا في تضليل الرأي العام على مدى 23 عاماً، والدعاية لدكتاتورية «بن علي» ومواجهة خصومه، بل تجريحهم والافتراء عليهم، وهو الدور الذي مارسوه ويمارسونه حتى بعد الثورة، فقد كانوا يشتمون حكام اليوم وهم في المعارضة، وظلوا يشتمونهم وهم في السلطة، وفاءً للمخلوع الذي يعدونه ولي نعمتهم.

يقع الكتاب في 354 صفحة، ويتضمن وثائق رسمية عُثر عليها في القصر الجمهوري، وكان بالإمكان الاطلاع على حقائق أكثر، لكن الذين دخلوا القصر وظلوا فيه عدة أشهر بعد الثورة قاموا بإتلاف الكثير من الوثائق بما فيها المتعلقة بهم، وهو ما تمت الإشارة إليه في مقدمة الكتاب.

تقمصوا دور الثوار

أسماء كثيرة ذكرها الرئيس «محمد منصف المرزوقي» في كتابه، وكثير منها معروف لدى الشعب التونسي، لكن كثيرين منهم لم يتم ذكرهم، وربما يكون ذلك في طبعة أخرى أو في جزء ثانٍ من الكتاب.

وللمفارقة، فإن الكثير من الأسماء تصدَّرت المشهد الإعلامي بعد الثورة، وأصبحت تتحدث باسم الشعب، وتستدعي المعارضة، ويلقنون ضيوفهم ما يجب عليهم أن يقولوه بما في ذلك الضحايا من فقراء المناطق الداخلية، بل لم يسلم منهم الرئيس «المرزوقي» وأعضاء الحكومة الذين تولوا مناصبهم عقب انتخابات 23 أكتوبر2011م.

من الأسماء التي أوردها الكتاب، إعلاميون، منهم: نجيب لاكانجي، وبرهان بسيس، وبوبكر الصغير، وسفيان ماهر، وعلي بالنصيب، وهدى عثمان، والمنصف قوجة، ورضا الملولي، وحسان المناعي، ولسعد الداهش، وعفيف الفريقي، والمولدي مبارك، وصالح الحاجي، وعبدالعزيز الجريدي، والمنصف بن مراد، وعبدالحميد الرياحي، وفتحية خنشة، ومحمد الميساوي، والهاشمي نويرة، ولطفي العماري، وكمال بن يونس، وخالد حداد، والمازني حداد، وإيهاب الشاوش، ونوفل الزيادي.. وكثير غيرهم.

كما كان ضمن منظومة الدعاية للاستبداد ومهاجمة أحرار تونس كتَّاب، من بينهم: فؤاد القرقوري، وجميلة الماجري، وأنس الشابي، ومنجي البدوي، ووسيلة بن حميدة، وصلاح الدين المستاوي.. وغيرهم الكثير.

ومن الأجانب: أيدموند غريب، وسعد اليزان العراقي، وغازي طعمة، ودانيال بن يحمد، وزياد الإمام، وحنا عنبر، ومسير صبح، وأسامة سرايا، وخير الله خير الله، و100 صحفي أجنبي من مختلف أنحاء العالم.. علاوة على جرائد ومحطات تلفازية كانت تقبض من قوت الشعب التونسي.

ذمم في سوق النخاسة

لم يضم الكتاب الذي ينتظر التونسيون وغيرهم صدوره بشغف شديد، أسماء الصحفيين الذين انخرطوا في منظومة الاستبداد فحسب، بل تحدث بالوثائق عن الأموال التي صرفت من قوت الشعب على سماسرة وكتبة كذبة ومتملقين ومرتزقة بأقلامهم وبشرف الكلمة وبميثاق العلم.. فهناك مناصب وامتيازات منحت لأولئك المعدمين الذين ظهر عليهم الثراء في عهد المخلوع فجأة، فأصبحوا من أصحاب الملايين والمليارات، منهم نقابيون لا يستحيون من الحديث باسم العمال والشعب، وهم من نفذوا 35 ألف إضراب بعد الانتخابات عام 2011م وحتى اليوم.

ورغم أن الحديث عن النخاسة الإعلامية والأدبية التي دأب عليها سحرة المخلوع من إعلاميين وغيرهم من الأمور البديهية المعروفة في تونس قبل وبعد الثورة، فإن الكتاب يوثق جرائمهم وعارهم، وهو ما سيلحق بهم سوء السيرة في التاريخ.

وهذا ما يفسر حالة الهستيريا والردود المضحكة لكثير ممن وُضعوا على قائمة عملاء الاستبداد والمستثمرين من أموال الشعب بغير حق.. حيث كان أكبر تجمع لأعضاء الحزب المنهار «التجمع الاشتراكي الديمقراطي» في التلفزة التونسية، التي كان يطلق عليها «تونس 7» نسبة لانقلاب المخلوع في 7 نوفمبر 1987م، لذلك لم يلحظ الشعب التونسي أي مظاهر احتفال بالثورة في وسائل الإعلام التي كانت مستفيدة من العطاءات ومن الهبات التي كانت تقدم لهم من قوت الشعب بغير وجه حق.

وهناك تركيز واضح على الاضطرابات ونشاطات جانب فقط من المعارضة أكثر منه تغطية متوازنة لنشاطات جميع الفعاليات السياسية في النسيج العام سلطة ومعارضة.

ولا شك بأن كتاب «المرزوقي»، الموثق بالأسماء، والوثائق التي تدين المرتزقة، مثَّل صدمة لدى الكثيرين ممن يخشون أن تكون أسماؤهم مدونة، أو من ذُكرت أسماؤهم بالفعل، فوضع مخازيهم في كتاب سيكون له دور فاعل في الحركة الثقافية والتأريخ لحقبة مظلمة من تاريخ تونس ضرب فيها الفساد أطنابه.

والكتاب وثيقة تاريخية مهمة جداً، ستفيد الباحثين من داخل تونس وخارجها يمكنهم من خلالها معرفة دولة الفساد التي لا تزال بعض جيوبها نشطة ويحمي بعضها بعضاً.

كما جاء الكتاب في وقت ظن الكثير من الفاسدين أنهم نجوا من العقوبة، بل من المحاسبة، وراهنوا على النسيان، وضعف ذاكرة الشعب كما يتوهمون، ويتوقع أن يلجأ الكثير من المعنيين إلى الانزواء والتراجع والتلاشي، اللهم إذا قرروا مواصلة سياسة «الصفاقة» و«الرقاعة» التي دأبوا عليها.. لكنهم لن يجدوا من يستمع إليهم، أو بالأحرى يصدقهم.

ترحيب ونحيب

رحبت الدوائر الثورية في تونس، ولا سيما شباب «الفيسبوك»، بالكتاب، وطالبوا الرئيس «المرزوقي» طبعه بآلاف النسخ حتى يطَّلع الشعب التونسي على محتواه ويعرف أعداءه.. في حين بدا بعض الأزلام يخبطون «خبط عشواء» في محاولات بائسة للرد على الرئيس «المرزوقي».

فقد رحبت صفحات «الفيسبوك»، بالكتاب، ووجه كثيرون تحيات شكر وتقدير للرئيس «المرزوقي»، ووصفه البعض بأنه ساهم مساهمة فعالة في القضاء على الثورة المضادة التي كان رموز الدعاية في عهد «بن علي» منغمسين فيها إلى آذانهم، واعتبروا الكتاب من القرارات الحاسمة لـ«المرزوقي» بعد التغييرات التي أجراها في قيادة الجيش، ورفضه ترشيح رموز النظام البائد لتولي رئاسة وزراء الحكومة المقبلة.

في حين اعتبر آخرون الكتاب محاولة من «المرزوقي» للانتقام من الصحفيين الذين ناصبوه العداء طيلة الفترة الماضية، وهو اعتراف بالأساليب السمجة التي اعتمدت في نقد أداء «المرزوقي» والتي خرجت عن اللياقة، لم يعرف تاريخ تونس المعاصر تهكماً ونقداً لرئيس دولة مثلما فعل صحفيون ونشطاء على المواقع الاجتماعية بشخصية «المرزوقي» حتى إنه أصبح ظاهرة للتندر لا في تونس فحسب بل في المنطقة العربية بأكملها، وذلك في إشارة إلى بعض عبيد البيادة في مصر، والذين يلتقون معهم على نفس الخط.. خط النخاسة والارتزاق.

والبعض ممن اتهمه بأنه بدون صلاحيات يتساءل الآن: كيف يترك مهامه كرئيس للجمهورية، ويعد كتاباً؟ والبعض زعم أن ما قام به «المرزوقي» هو من مهام القضاء، بل إنه بكتابه «يعرض حياة تونسيين للخطر»! ورأى البعض أن ما قام به «المرزوقي» تشهير، ولكنهم لم يقولوا ذلك عندما كان الذين يفضحهم «المرزوقي» يشهرون به وبالمناضلين، بل ويبررون القمع في تونس لا سيما ضد الإسلاميين.. وهناك من اعتبر كتاب «المرزوقي» دعوة للقتل، وبمثابة فتوى سياسية للمتطرفين – كما يصفونهم – لتصفية هؤلاء الصحفيين الذين سخروا أقلامهم لمدح الاستبداد والتشهير بالديمقراطيين.. وعندما كان هؤلاء ينهشون أعراض ودماء المعارضين في عهد الاستبداد لم يقم الذين يتحدثون عن الأعراض والدماء بتوجيه أي رسالة لهم، بل كانوا ضمن الجيش الأحمر الإعلامي في خدمة الاستبداد يستبيح الأعراض والدماء، حقيقة لا تجاوزاً.

Exit mobile version